المغربي (إبن تاونات) إدريس القري:”جبل موسى” فيلم مثير للنقاش يحرك الماء الراكد في السينما المغربية

عن موقع “هسبريس”:”تاونات نت”/- قال الباحث المغربي (الذي ينحدر من منطقة الجاية بإقليم تاونات ) ‏إدريس القري إن فيلم “جبل موسى” للسينمائي المغربي إدريس المريني فيلم مغربي حتى النخاع، مضيفا أن “المشاهد يحس وهو يتفرج عليه بأنه في بلده وفي ثقافته وفي نفسيته وداخل هواجسه وانفعالاته، وفي زخم محبته للناس وللثقافة وللفكر وللفون وللآداب”.

وأوضح القري، في مقال له بعنوان ‏”جبل موسى لإدريس المريني: بحرُ الشك وجبلُ اليقِين”، أن فيلم “جبل موسى” يتعرض بحذق وذكاء مهني أيضا للتوظيف الانتهازي والإيديولوجي للعقيدة وللإيمان ولنبلهما وسموهما في الحياة اليومية للناس بشكل يعوق الحُريات، ويسلبُ العقل وظائفه، ويُورِّث الإحساس بالذنب لكل مُقْبِلٍ على الحياة ولكل مندفع طَمُوحٍ، ولكل مُرِيدٍ للحُرِّية.

وبعدما تطرق إدريس القري، في مقاله، لمجموعة من الجوانب المرتبطة بالفيلم، كـ”الرهان الرابح لإدريس المريني”، و”قوة وراهنية موضوع/ إشكالية طبيعة الإيمان والتصوُّف”، و”التفكير العقلاني الفلسفي”، ختم مقاله بالإشارة إلى أن فيلم “جبل موسى” يمثل نقطة تحوُّلٍ ليس فقط في الإنجازات السينمائية للمخرج إدريس مريني، بل يشكل هذا الفيلم نقطَة تحوُّل في تاريخ السِّينما المغربية التي عادة ما تتجنب التطرق إلى القضايا ذات الراهنية الدائمة، والمتجذرة في الوعي واللاوعي المغربي.

هذا نص المقال:

مفاجأة جميلة وممتعة بالتأكيد هي مشاهدةُ فيلمٍ روائي طويل مُمتع ومفيد، لذيذ ومشوق، مثير للنقاش وشجاع في طرح أسئلة شغلت وتشغل بال أجيال وأجيال.

عن فيلم “جبل موسى” للسينمائي المغربي إدريس المريني نتحدث، وهو الفيلم الذي بدأ عرضه في القاعات بالمغرب يوم الأربعاء 26 أكتوبر 2022. تشعر وأنت تشاهد فيلم “جبل موسى” بأنك في المغرب وفي قلب ثقافته وإشكالياته وتساؤلاته اليومية، المعلن منها والمسكوت عنه، وبإخراج سلسٍ ومُتدفِّق وكلاسيكي، بالمعنى الجميل للكلمة في اللغة السينمائية. إنه باختصار فيلم مغربي حتى النخاع، يحس المشاهد وهو يتفرج عليه بأنه في بلده وفي ثقافته وفي نفسيته وداخل هواجسه وانفعالاته، وفي زخم محبته للناس وللثقافة وللفكر وللفون وللآداب.

لم يحتج السينمائي إدريس المريني لمسوغاتٍ بصرية ولا لشطحاتِ الكاميرا ولا لكثرة مؤثرات التصوير، ليحكي للمشاهد حكاية مأساوية بعمق فكري رصين وشجاع. بطلا الفيلم حكيم ومروان، (تشخيص يونس بواب وعبد النبي البنيوي)، يسميان الأشياء بمسمياتها رغم ما تزرعه مضامين الإنترنت والأفلام المغربية غير-السينمائية من ضحالة ومن رداءة ومن سطحية، عندما تدّعي القدرة على صناعة الفيلم السينمائي المغربي، انطلاقا من حياة وثقافة وتاريخ ومفارقات المجتمع المغربي.

كما لم يحتج السينمائي إدريس المريني إلا لرواية مغربية ملائمة، (رواية جبل موسى للروائي عبد الرحيم بهير)، ليوظف كل حذقه في تحويلٍ جميلٍ لنصٍّ أدبي إلى فيلم سينمائي مليء بالفُرجة وبالفائدة وبالمتعة المُتزنة والمعقولة، وهو التحويل الذي برَّز روائياًّ، كما برهَن على العلاقة الإبداعية المُمكنة بين الرواية والفيلم المغربي في المغرب.

نظرا لما سبق ولما سيأتي في هذه المقالة نرى أن من غير الممكن التفكير في الأفلام المغربية لسنتي 2021 – 2022 دون ذِكر فيلم “جبل موسى” ‏للسينمائي إدريس المريني؛ فقد حرَّك هذا الفيلم بشكل مفاجئ، وضدا على مسار صناعة الأفلام في السينما المغربية، الكثير من الماء الراكد.

يتعلق الأمر بفيلم روائي طويل يتعرض لموضوع مُتشعِّب بقدر ما هُو معروف، ومُركب بقدر ما هو مألوف، لم يتِم التّعامل معه إلا قليلاً في السينما المغربية، ‏ولربما يمكن القول بدقة أكثر إن ‏التعامل معه تمَّ لكن بشكل سطحي ونمطي عموما.

يتعرض فيلم “جبل موسى” بحذق وبذكاء مهني أيضا للتوظيف الانتهازي والإيديولوجي للعقيدة وللإيمان ولنبلهما وسموهما في الحياة اليومية للناس بشكل يعوق الحُريات، ويسلبُ العقل وظائفه ويُورِّث الإحساس بالذنب لكل مُقْبِلٍ على الحياة ولكل مندفع طَمُوحٍ، ولكل مُرِيدٍ للحُرِّية. يصوغ إدريس المريني الكل في حكاية ممتعة ودالة تحبُل بمواقِف وبأوضاع دراميَّةٍ مُركَّبة من خلال مونطاجٍ جيٍّد ورصين رصانة الحكاية، وتموضعات للكاميرا بشكل ملتزم بنبل وبسمو رسالة التركيب السردي الناضج والملتزم.

ينتصر الفيلم للعقل وللحداثة وللفردانية قوية الوعي بالفكر وبمعنى الإرادة: شيء رائع كما هو نادر في السينما المغربية.

يفعل فيلم “جبل موسى” ذلك دون مكر فرانكفوني يعتمد دعمه ولوبياته، كما يقوم بذلك دون تملُّقٍ مستلبٍ لهامش لا يعرف ما يتعرض له من توظيف ماكر، لا تأثير له إلا على نخب تمرح مزهوة في استيلابها بالتفرج عليه.

يفقد بطل الفيلم “حكيم” الثقة والذوق في الحياة في ظروف درامية؛ إنه غاضب من الجميع باستثناء أمه، اهتماماته بالفكر الصوفي والفلسفي وبالموسيقى الكلاسيكية الرفيعة شحذت تساؤلاته عن الخلق وعن الخالق، عن الحب وعن المأساة، وعن الوفاء الذي يحمله في صدره والخيانة التي أفقدته الرغبة في الآخرين، وشحذت عدوانيته نحو ذاته التي يعاقبها بعزلها عن الناس. سيجد حكيم صفاء الذهن ويقين القلب والروح بعد لقائه بمروان، أستاذ الفلسفة الذي يبدو أنه لا يفكر في حياته فلسفيًا، بقدر ما يبحث عن استقرار اجتماعي مألوف.

يتجلى رهان إدريس المريني الرّابِح في فيلم “جبل موسى” من جهة أخرى في ما يواجه أي سينمائي قد يشتغل على موضوع مثل موضوعه؛ فالسقوط في الملل وفي الخُطب الفكرية العقِيمة، وفي الأحكام القطعية والمُسبقة وفي رتابة الحكي، وفي خشبية اللغة والنمطية والكليشيهات، وفي المسِّ بالخطوط الحمراء وفي اعتيادية البناء الدرامي وبطئه إلخ، كل تلك مَطبَّات تترصَّد أي فيلمٍ يتخذ من قضايا الدين والدنيا موضوعا له: فإما بناءُ فيلم نخبوي، (The two popes مثلا)، لن يتواصل مع جماهير في بلد كالمغرب، لا تميز بين السينما والتلفزة، بل مع نخبة جد محدودة، أو فيلم ينزع نحو الجماهير العريضة، يخاطب انفعالاتها وعصبيتها ومزاجيتها وجهلها، وآنذاك سيسقط بسهولة وبسرعة في السطحية المقرفة وفي الشعبوية الفاضحة، وبالتالي في تشويه قضايا تشكل أحد مسارات التحديث ومواضيعه؛ أكثر من ذلك سيسقط في تسفيه الفن وتمريغ دوره في الوحل، باعتباره دورا إشراقيا في تنوير جماهيره ودفعها نحو طرح الأسئلة الصحيحة، وبشكل مختلف عن السائد العقيم، مساهمة منه في التنوير وفي مسلسل تحديث عزيز ومطلوب.

‏ترجع قوة وراهنية موضوع-إشكالية طبيعة الإيمان والتصوُّف من جهة، والتفكير العقلاني الفلسفي من جهة ثانية، في علاقتهما بالاستقرار النفسي والفكري لمجتمع ولاختيارات سياسية وقرارات إستراتيجية ترجع ‏إلى عداءٍ تاريخي بين التصور الفقهي والتصور الفلسفي لبعضهما ولتصور كلاهما للحياة ولقِيَّمها ولقيمتها، وخاصة الحريات الفردية وعلاقة الإرادة بالقَدر والرجل بالمرأة والأخلاق بسلطة المجتمع.

حاول فلاسفة ومفكرون من كل الديانات ومن خارجها، ومنذ القرون الوسطى، مقاربة هذه العلاقة المتشنجة والملتبسة ‏وسبر أغوارها، ‏ولعل محاولة ابن رشد ‏كانت هي الأقوى والأبرز من خلال كتابه “‏فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال”، إلا أن أغلبهم أدوا عن ذلك ثمنا باهظا.

عالج إدريس المريني في فيلمه “جبل موسى” موضوعا ملتهبا وحساسا وذا راهنية إذاً، ‏بسبب وجوده في عمق الشعور واللا شعور المغربي والعربي خاصة، ‏وبالنظر أيضا إلى طبيعة محتويات ومناهج التربية والتعليم في الأسرة وفي المدرسة المغربية والعربية، ‏وأخيرا نظرا لطبيعة الأنظمة السياسية دولة وأحزابا وهيئات مدنية، ‏ومواقفها من الدين سلبا وإيجابا في ممارسة تأطيرها وتنظيمها للمواطنين، والصغار منهم على وجه الخصوص.

وبغض النظر عن الموقف الذي قد يبدو لأي متفرج أن الفيلم ينتصر له في النهاية، وهو موقف العقل والاعتدال والاعتراف برب الكون خالقا ومُطلق الجَلال، فإن فيلم “جبل موسى” يدفع المُتفرج دفعًا لاعتبار السينما صناعة جادة وجدية للأفكار البناءة، وللقيم النبيلة، وتثمينا لعقل الإنسان، ولقوة إرادته (شوبنهاور)، صانعة معنى خلقهِ ودلالات إنسانيته وفِعله الخلَّاق.

يمثل فيلم “جبل موسى” نقطة تحوُّلٍ ليس فقط في الإنجازات السينمائية للمخرج إدريس مريني، بل يشكل نقطَة تحوُّل في تاريخ السِّينما المغربية التي عادة ما تتجنب التطرق إلى القضايا ذات الراهنية الدائمة، والمتجذرة في الوعي واللاوعي المغربي، لأسباب عدة منها على وجه الخصوص: الرقابة الذاتية، وعدم الكفاءة السينمائية والفكرية لأغلب سينمائيينا، وأخيراً ضعف الإمكانيات المالية، وكذلك الافتقار إلى الشجاعة ولحِسِّ الالتزام، باستثناء عدد قليل من المخرجين.

عن الكاتب

صحفي

تاونات جريدة إلكترونية إخبارية شاملة مستقلة تهتم بالشأن المحلي بإقليم تاونات وبأخبار بنات وأبناء الأقليم في جميع المجالات داخل الوطن وخارجه.

عدد المقالات : 7183

جميع الحقوق محفوظة لموقع تاونات.نت - استضافة مارومانيا

الصعود لأعلى