أضرحة ببني وليد تتحول من أماكن للتبرك إلى مجامع ليلية ومأوى من الأمطار والبرد

ضريح ببني وليد

ضريح سيدي عبد الله ببني وليد

بني وليد :جريدة”تاونات نت”/لا يخلو  أي مجتمع من المجتمعات المغربية من أضرحة، التي تكون في الغالب عبارة عن بنايات صغيرة فوق قبر أحد أحبة الله ورجال الصلح، أو أحد العلماء، وعرف عن المغاربة احترامهم لهذه الأضرحة بل والاعتناء بها وترميمها كلما ظهرت بها بعض التصدعات، وكذلك تجيرها وتنظيفها من حين إلى أخر.

يؤمن جل المغاربة بان الله هو الواحد الشافي والرزاق، وأن هؤلاء السادة هم مجرد وسيط بينهم وبين الله، لما عرفوا به من صلاح  وشرف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقربهم من الله وزهدهم في الحياة، فساد الاعتقاد بأن هؤلاء السادة لا تنقطع كرماتهم وبركاتهم بعد موتهم. وتعتبر المدن والقبائل والقرى التي يوجد بها أضرحة بأنها أماكن مباركة، وهكذا كان المغاربة يحترمون هذه الأضرحة ويبجلونها، ويعتنون بها وإشعال الشموع داخلها، وكذلك زيارتها في بعض المناسبات الدينية وتقديم الأضحية لها.

ومع  انتشار التعليم والمدارس والطب وتعاقب الأجيال، والهجرة نحو المدن، بدأت هذه التقاليد تغيب من الحياة اليومية للساكنة، وساد الاعتقاد بأنها عادات وتقاليد تنم عن التخلف والشعوذة، وازداد هذا الإيمان تجدرا في وسط الساكنة في عصر العولمة التي فتحت العالم على مصرعيه وجعلت الحياة اليومية للفرد والجماعة تعتمد على ما هو عقلي، وما يرتبط بالكتاب والسنة النبوية الشريفة، وترك كل ما هو خرافي أسطوري.

فانطلاق الشباب يتمرد على معتقدات الآباء والأجداد، وهذا التمرد لم يقف فقط عند انتقاد الأفكار، بل تجاوزه إلى اختراق مقدساتهم، والنيل من حرمتها، وأصبحت الأضرحة في بعض القرى والقبائل التي لا تشرف عليها أية جهة حكومية أو عائلية، إلى محلات يتخذونها كمكان أمن من البرد والمطر لتجمعاتهم الليلية، وكذلك محل للعب الورق وغيرها من أنواع القمار حيث تجد الشباب يجتمعون داخله في ظلمة لعدم توفره على نوافذ، كما يتم إيقاظ النار لمواجهة البرد القارص.

وهذه الظاهرة لمسنها بجماعة بني وليد وبالضبط في دوار عين عبدون الذي يوجد به ضريح صغير يعرف بسيدي عبد الله وهو عبارة عن بناية مكون من بيت واحد مجانب لمقبرة قديمة، تحمل اسمه، مما يدل على قدمه، وتغطي جنابات المقبرة أشجار الضرو الذي لم يعد بنفس الكثافة التي كان عليها في السابق، نظرا للتدخل السكاني واتخاذ المقبرة كمرعى للدواب والأغنام في العقود الأخير.

شكل سيدي عبد الله دفين دوار عين عبدون في مراحل سابقة مكان للتعبد والتبرك من طرف سكان الدوار ومزارا لهم، وكان يحظى باحترام وتقديس كبيرين من طرف الساكنة الذين كانوا يعتقدون بأمر بركته ويؤمنون بقدرته على الشفاء، واستجابة الدعوات المختلفة وحل مشاكلهم، وفض نزاعاتهم.

وكان السكان كلما أصيب أحدهم بمصيبة من سحر أو حمى أو صرع أو حمق أو مرض إلا وسارعوا إلى سيدي عبد الله يطلبون منه أن يجود عليهم ببركاته وكرماته التي لا تنتهي ولا تغيب، فيعترفون له بذنوبهم التي اقترفوها في حياتهم وأنها هي التي كانت سبب مصيبتهم عقابا من الله لهم، ويطلبون منه أن يتجاوز عنهم ويشفي مريضهم.  فإذا قدر الله وشفي المريض زاد أهله وذويه من تقديسهم له اعتقادهم  وببركاته، أما في حالة وفاة المريض أو تفاقم حالته المرضية تجد أهله يلومون أنفسهم، على اقترافهم لأفعال جعلت والي الله لا يقبل طلبهم.

كما كان سيدي عبد الله قبلة للعوانس والموصوفين بالنحس أو الثقاف، والشعوذة فتجد العانسات تطلب منه أن يجود عليها بعريس، في حين يطلب العريس ”المثقف” أن يفك أمره واسترجاع حيويته، وأم البنات تطلب الولد الذكر، والعاقر تطلب الذرية، ونفس الشيء بالنسبة للذين أصابهم السحر والجن …

وبالرغم من أن هذه الظواهر لازالت منتشرة في مجتمعنا المغربي حتى يومنا هذا، غير أن انتشارها لم يعد بالكثرة التي كانت عليه من قبل. وانحصاره فقط وسط بعض الأسر المنغلقة، وتدني المستوى التعليمي لأفرادها.

كما كان سيدي عبد الله يلعب أدوار اجتماعية أخرى، حتى حدود العقود الأخير من القرن العشرين، حيث كان تنظم به عدة أنشطة من بينها ”الختان”، أو ”الطهارة”، وفي الغالب كان يتم ذلك في عيد المولد النبوي الشريف من كل سنة، حيث يجمع كل الأطفال الدور  غير ”المختنين”، ليقوم ”الختان” أو الحجام ”بتختينهم”، ويتم ذلك في جو من الاحتفال والفرحة والبهجة والسرور الجماعي.

كما كان سيدي عبد الله يشكل المكان المناسب من أجل القيام ببعض الأعمال التضامنية مثل ”الوزيعة” إذ كان في السابق سكان الدوار يتعاونون في شراء ثور ويذبحونه ثم يوزعونه إلى ”بضعات” حسب عدد السكان، كما كان عندما يصاب ثور أحد الساكنة بمرض مفاجئ يجتمع كبار القوم ويذبحونه ثم يقوم سكان الدوار بتعويض صاحب الثور بقدر مالي مقابل ”بضعة” من اللحم. وكانت عملية الذبح والسلخ والتوزيع تتم بساحة سيدي عبد الله.

هذه الوظائف التي كان يضطلع بها ضريح سيدي عبد الله، والتي كانت تجمع ما بين ما هو خرافي أسطوري وما هو اجتماعي ثقافي وتضامني، اختفت في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين، حيث سيبرز بالمنطقة جيل جديد من الشباب المتعلم، انتقد هذه الظواهر الخرافية شكلا ومضمونا، واستغنى عن تلك الوظائف التضامنية والاجتماعية ونزوحه نحو الفردانية، فكان لابد من تخليهم عن مثل هذه الطقوس، بل أكثر من ذلك دفعتهم جرأتهم إلى اختراقهم لضريح سيدي عبد الله والنيل من حرمته، واتخاذه كمكان لخلوتهم وتجمعاتهم، وكان لغياب المقاهي وأماكن للتجمع، وعزلة دوار عين عبدون عن مركز بني وليد وخاصة في فصل الشتاء، دافعا لإختراق حرمة ضريح سيدي عبد الله واتخاذه كمكان لتجمعاتهم الليلة، ومأوى من البرد والأمطار، خاصة وأن هذا الضريح يقع وسط الدوار  وبعيد من المنازل.

 ويحكي أحد ساكنة الدوار أن هذه الظاهرة بدأت منذ السبعينيات القرن العشرين، ونتج في البدايات الأولى لهذا الاختراق صراع بين الجيلين، تجلى من خلال توعد الأجداد والآباء هؤلاء الشباب ”الثائر” ”بسخط سيدي عبد الله”، وقدرته الخارقة عن انتقامه منهم، ونظرا لخوف بعض الآباء على أبنائهم، نسجوا بعض الأساطير عن ”غضب” سيدي عبد الله، على كل من يعتدي على حرمته، وهي أساطير لا زالت بعضها تتناقله الأجيال، من بينها أن سيدي عبد الله رمى من داخله في يوم من الأيام بأحد هؤلاء الشباب بعيدا نحو واد البراج الذي يمر بجانبه، كما يحكى كذلك أن السيد عبد الله أبعد العديد من أبناء المنطقة الذين كانوا يجتمعون داخله من دوار عين عبدون إلى المدن، وغير ذلك من القصص الخيالية التي تصب في اتجاه واحد هو تخوف الآباء على أبنائهم من سخط سيدي عبد الله، فكانت هذه هي طريقة إبعادهم عن حرمته.

غير أن اقتناع الشباب المتعلم، بانقطاع أعمال الإنسان بعد موته إلا من ثلاث: ”صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”، جعلهم لا يأبهون بكلام أبائهم، ولا يأخذونها بعين الاعتبار مادامت تدخل في إطار الشرك بالله، عن طريق إضفاء بعض الصفات الإلهية عن السادات والأضرحة، مما نتج عنه اختفاء تلك الأدوار والوظائف العلاجية والخرافية والاجتماعية التي كان يلعبها سيدي عبد الله في السابق، وأصبح اليوم عبارة عن ”نادي” يتخذه الشباب كمكان من اجل تقضية الوقت خارج بيوتهم وفي نفس الوقت يكونون في مأمن من الشتاء والبرد القارص، حيث يقومون بجمع الحطب وإشعال النار في وسطه ويلتفون حولها في شكل دائري وتبدأ الأحاديث والنقاشات فيما بينهم سواء تعلق الأمر بالمستطرفات أو المستملحات أو النميمة وجديد المنطقة وكذلك مواضيع كرة القدم وغيرها من الأمور التي تكون محط اهتمامهم وتثير فضولهم….

إعداد: عاهد ازحيمي

عن الكاتب

صحفي

تاونات جريدة إلكترونية إخبارية شاملة مستقلة تهتم بالشأن المحلي بإقليم تاونات وبأخبار بنات وأبناء الأقليم في جميع المجالات داخل الوطن وخارجه.

عدد المقالات : 7186

اكتب تعليق

لابد من تسجيل الدخول لكتابة تعليق.

جميع الحقوق محفوظة لموقع تاونات.نت - استضافة مارومانيا

الصعود لأعلى