هذه جذور النزعة الأمازيغية في المغرب – بقلم:الدكتورالعربي اكنينح/أستاذ جامعي -فاس

الدكتور العربي اكنينح

الدكتور العربي اكنينح

فاس:جريدة”تاونات نت”/كان المغاربة قبل الفترة الإستعمارية،  يعيشون في وئام تام ، لا فرق بين  عربهم وبربرهم ، باستثناء النزاعات  العادية  التي كانت تنشب بينهم ،بين الحين والآخر، حول المجالات الرعوية، أومجاري المياه، أوحول القضايا  التي تتعلق بسلوك الناس وانحرافاتهم كالسرقة، أو انتهاك حرمات الجار ، أو الإعتداء على الغير، أو بسبب الإختلافات السياسية حول اختيار هذا السلطان أو ذاك، أو ما شابه ذلك من النوازل اليومية . وهذه أمور تحدث في  جميع أنحاء العالم ، وفي مختلف الأمم والشعوب وبين أبناء الشعب الواحد.  ولم تكن هذه النعرات الطائفية  التي أطلت علينا في هذه الأيام ، موجودة  ولا  حتى مفكر فيها.  فقد كان البربر يعتزون بانتمائهم إلى العروبة والإسلام.  وكانوا يعتقدون أنهم لا يمكنهم أن يكونوا مسلمين حقيقيين، إلا إذا تعلموا العربية، لغة القرآن، وأن مفاخر البربر لا يمكن أن تكتمل  إلا إذا  انتسبوا إلى العرب، وعرب قريش بالذات التي نزل فيهم الوحي،  متمثلا في الرسالة المحمدية . وفي هذا الصدد،  كان النسابة البربر يوصلون القبائل البربرية بأصول عربية. فقد ذكر ابن خلدون أن نسابة زناتة ينسبون أنفسهم إلى حمير، وإلى العمالقة  ” البربر فرقتان هما: البرانس والبتر. فالبتر من ولد بر بن قيس بن عيلان ، والبرانس بنو برنس بن سفجو بن أبزج بن جناح بن واليل بن شراط بن تام بن دويم بن دام بن مازيغ بن كنعان بن حام” . وفي نفس الإتجاه، أشار ابن أبي زرع الفاسي ، عند تأريخه لحكم بني مرين، إلى أن أصولهم  تعود  إلى الجنس العربي من سلالة نزار بن معذ بن عدنان. وعندما تحدث مؤرخو الدولة الموحدية عن المهدي بن تومرت رفعوا نسبه إلى علي ابن أبي طالب ، وحرصوا على التأكيد على نسبه الشريف ، رغم أنه ينحدر من قبيلة هرغة البربرية، في الأطلس الصغير. و كان يعرف قبل ادعائة المهدوية،  بأسفوط الذي يعني المشعل أو النور بالعربية. وعندما انتصر يوسف ابن تاشفين  المرابطي الأمازيغي،  في معركة الزلاقة في الأندلس سنة 1086 م، سمى نفسه أمير المسلمين، واستمر يخطب في المساجد بإسم العباسيين لأنهم ينحدرون من قريش، والإمامة لا تجوز إلا في قريش، طبقا لحديث منسوب للرسول، مؤداه،  بتصرف، الإمامة في قريش، والقضاء، في اليمن، والآذان في الحبشة.  و إلى جانب هذا، عندما كانت تسوء  الأحوال السياسية والأمنية في البلاد، كان الأمازيغ والعرب على السواء، يلجأون إلى الشرفاء والمرابطين للتحكيم فيما بينهم ، ويخطبون ودهم  للتوسط  في حل نزاعاتهم   اليومية. فقد التف البربر حول ادريس بن عبد الله سنة172 ه،  وزوجوه إحدى بناتهم ورأسوه عليهم،  وبايعوه على التحكيم فيما بينهم ، وتدبير شؤونهم الدينية  و الدنيوية،  فقامت الدولة الإدريسية .  ومن هذه الأسرة  خرج الشرفاء الأدارسة المنتشرون اليوم في جميع أنحاء المغرب . وفي عهد السعديين، بايع أهل سوس، العرب والبربر منهم ، في سنة 1511،  الشريف محمد بن عبد الرحمان، المدعو ،محمد القائم بأمر الله، في وادي درعة ، لأنه ينحدر من قبيلة بني سعد التي تنتمي إليها حليمة السعدية، مرضعة الرسول، وساروا وراءه لمقاومة الغزو البرتغالي الذي كان يهدد المنطقة والبلاد بصفة عامة. وبعد وفاة أحمد المنصور السعدي سنة 1603 ،عرف المغرب حروبا أهلية  طاحنة  دامت تقريبا حوالي 63 سنة (1603- 1666 ) بسبب تنازع أبناء السلطان المذكور على العرش، وظهور عدد من الإقطاعيات  المتناحرة  فيما بينها، وتدخل الأتراك والإسبان في شؤون المغرب الداخلية لتآجيج حدة  الصراع . ولما سئم المغاربة  الحروب الأهلية و فشلوا في لم شملهم ، لجأوا  مرة أخرى إلى  الشرفاء  العلويين   وبايعوا مولاي علي الشريف في تافلالت  وجعلوه سلطانا عليهم، ولم يحيدوا عن هذه الأسرة،  منذ ذلك التاريخ ، إلى يومنا هذا. وعندما تأسست الزوايا في مطلع القرن السادس عشر  ، وانتشرت الطرق الصوفية في جميع أنحاء البلاد، ، انخرط  المغاربة  عن آخرهم فيها،  لافرق بين عربهم وبربرهم،  فتجد في نفس الزاوية،  الكتانية ،أو التجانية، أو الوزانية ،أو الدرقاوية ، أوغيرها،  الناس يجتمعون، من كل حدب وصوب،  من عرب وبربر، يرتلون  نفس الأوراد، ويتبعون نفس الشيخ،  ويقومون بنفس الطقوس.  وبذلك ، ومع مرور الزمن، تعرب البربر في جميع مناطق المغرب، وترسخت العقيدة الإسلامية في نفوسهم، بسبب نشاط الزوايا ،وتمكن الشيوخ من نشر تعاليم طرقهم  الصوفية  في جميع ربوع البلاد . وإلى جانب هذا، عملت الدولة من جهتها، منذ عهد الأدارسة ،كما بيناه في مقالنا  السابق” في المسألة الأمازيغية” ، المنشور على موقعنا على الفسبوك، على صهر المغاربة  في قالب هوياتي واحد،  تجمع بينهم عدة روابط مشتركة تشد بعضهم إلى بعض. وهذه الروابط هي: الوطن، واللغة ،والدين،  والعادات، والتقاليد، والماضي المشترك الذي امتد على أكثر من ربع قرن من الزمان. ومن هذا المنطلق،  يحق لنا أن نتساءل هنا ، ما هي جذور المسألة الأمازيغية؟ ومتى دخل هذا الفروس ( نعني به النعرة الطائفية) إلى المغرب، وبدأ ينخر كياننا من الداخل؟  إن الروايات التاريخية التي وصلتنا عن بلادنا ، عبر مختلف العصور،  روايات ملغومة ، تحمل في طياتها سموما  خطيرة ، و بذورا  خبيثة فد تؤدي إلى ما لاتحمد عقباه.  لذا وجب التنبيه  هنا إلى أنه عندما يهم المرء بالبحث في تاريخ المغرب، أو المشرق العربيين ، يجد نفسه أمام ثلاث روايات :1) الرواية التقليدية: وهي روايات الحوليات التاريخية، وكتب التراجم ،والمناقب، الأنساب، والرحلات، وغيرها.  وهذه الرواية غالبا ما تحجب عنا الحقائق، وتسدل  أمامنا ظلالا قاتمة من الشكوك والأوهام، كلما تطلعنا إلى معرفة العوامل التي تحكمت في صيرورة هذه البلدان وتطور بنياتها ا،لإقتصادية والإجتماعية ، والسياسية. لأن أصحابها وضعوا مؤلفاتهم، إما تحت رقابة السلطان السياسي القائم في عصرهم  وبتوجيه منه، وإما  للدفاع عن منظومة فكرية، أو مذهبية، أو سياسية ،تخدم مصالحهم  وتبرر مركزهم الإجتماعي والسياسي.  2) الرواية الإستعمارية: وهي مجمل أدبيات ونصوص الأسطوغرافية الكلونيالية والإستشراقية بصفة عامة. وهذه الرواية ،وضعت  أيضا في ظروف سياسية ودولية ، وظف أصحابها التاريخ و علوم الإنسان ، للدفاع عن إديلوجية السلطة الحاكمة الرامية إلى طمس هوية الشعوب المستعمرة وتوجيه  تاريخها في المسار الذي كانت تريده، لتعبيد الطريق أمام  الغزاة والمعمرين لتحقيق مشروعهم الإستيطاني  في البلدان المسماة اليوم بالعالم الثالث. وهذه الرواية، كما سنبينه، فيما بعد، هي التي أدخلت إلى بلادنا  بذور النعرة القبلية  التي نحن بصددها اليوم.3 )  الرواية العلمية،أو الموضوعية، وهي التي يسعى الباحثون الأكادميون  في مختلف جامعات العالم ، إلى تأسيسها اليوم  ، على أنقاض الروايتين الأولى والثانية. وهي تخضع لمناهج ومقاييس علمية صارمة، كلما أمكن ذلك. ومن هذا المنطلق، نلاحظ أن تاريخ المغرب ، لازالت تعشش فيه الطروحات الإستعمارية ( وهي التي يقرأها الغلاة من مواطنينا اليوم)، وأحكام الرواية التقليدية ، الموسومة ، في كثير من الأحيان، بسمات الأسطورة والملحمة التاريخية. وسنكتفي  في هذا المقال  بالرواية الإستعمارية لأصول البربر،على أن نعود في دراسة لاحقة للروايتين التقليدية والعلمية.

الرواية الإستعمارية هي  أصل النعرة القبلية التي أطلت علينا اليوم

أصول البربر حسب الرواية الإستعمارية

عندما دخل الفرنسيون إلى الجزائر في سنة 1830، واحتلوها، وقرروا اعتبارها جزءا من التراب الوطني الفرنسي، راحوا يبذلون  مساعيهم ، على عدة أصعدة، لإفراغ الشخصية الجزائرية من مضامينها الوطنية. فأخذوا يبحثون عن ثغرة  يمكن التسلل منها لتمزيق وحدة الشعب الجزائري. وفي هذا الإطار، أوصى الجنرال ( Daumas) ، عشية الحملة العسكرية التي نفذتها كتائب الضابط  Randon)) على منطقة القبايل (La Kabylie)، بضرورة العمل على كسر بنى اتحاديات قبائلها، وتفكيك نظمها ، لتدجينها ، والتمكن بالتالي ، من الإمساك بعنانها. وفي نفس الإتجاه، أعاب أحد دهاقنة الإستعمار، لدريد دلشريير( Ladreit De Lacharrière)  في سنة 1924 ،على غزاة الجزائر، كونهم، لم يتفطنوا، في بداية استعمارهم لها، من التمييز بين مختلف الفصائل الإثنية المكونة لشعبها، وإحداث شرخ وسط سكانها ، ثم العمل بعد ذلك على  توسيعه ، لتفتيت هذه الكتلة البشرية الغير المتجانسة، في نظره، وعزل بعضها عن البعض الآخر. ( Ladreit De La  charrière, rappelant une faiblesse ancienne, mais corrigée depuis, il   reprochait aux conquérants de L’Algérie  de n’avoir pas, à leur époque, su distinguer «  les éléments ethniques  dont se composait le conglomérat des  populations  hostiles  omettant de la sorte, de rechercher  dans ce bloc, la faille à élargir pour le désagréger »)  Jacques Ladreit  De Lacharrière ; Les études berbères au Maroc et leur intérêt nord-africain,  « in »  « Renseignement coloniaux » , 1924 , p.315.

وفي المغرب،  بدأت فرنسا، منذ 1914، تخطط لعزل البربر عن العرب، فراح ضباطها ومنظرو سياستها، يروجون لفكرة وجود شعبين في المغرب يختلفان من الناحية العرقية، والدينية ،والقانونية ، والثقافية، وأن بربر شمال إفريقيا بصفة عامة لايمتون بأية صلة للجنس العربي ، وليسوا ساميين مثلهم.، بل هم من أصل أروبي آري، هاجروا من أروبا  وسبقوا العرب إلى هذه البلاد. ولتدعيم هذا الإتجاه، صدرت تعليمات إلى المؤسسات الثقافية الفرنسية  بشمال إفريقيا لإبراز الأصل الأروبي للبربر، واعتبار العرب مجرد غزاة محتلين يجب طردهم والتخلص منهم، ليسهل على فرنسا إدماج هذه المنطقة  بصفة نهائية في حظيرة أمبراطوريتها الإستعمارية. Voici comment s’exprime  Gautier à cet égard : «  La colonisation idrisside au sud du limes (romain) déchaîna des possibilités nouvelles. Elle ouvrit les portes du nord  aux almoravides ( amazighs) , puis aux   almohades ( amazighs)  Ce qui commence là est l’histoire du Maroc, un compartiment distinct dans l’histoire du  Maghreb ». Gautier ‘E.F), Le passé de l’Afrique du Nord, les siècles obscurs, Payot, Paris, 1937 , p. 315.  وفي هذا الإطار، اهتم عدد من الباحثين الإستعماريين بالحياة الإجتماعية ، والثقافية للقبائل البربرية ، وشيعوا أن الأمازيغ قوم غير متمسكين بالإسلام ، وأن إسلامهم إسلام سطحي ، غير متجدر في أعماقهم ووجدانهم. وفي نفس السياق، جمع عدد من الحقوقيين الفرنسيين الكثير من المعلومات عن عرف القبائل البربرية ، وحرصوا على حفظها وتدوينها ، كما تناولوها بالدراسة والتحليل، وبالغوا في تمجيدها وإبراز أهميتها. فذهبوا إلى القول : إن القوانين العرفية التي كان العمل جاريا بها في القبائل المذكورة، هي أقرب في مضمونها وروحها إلى القوانين الفرنسية منها إلى الشريعة الإسلامية. واهتم البعض الآخر  بمقارنتها بأحكام  الشريعة الإسلامية  ورأوا فيها مميزات وخصائص تنسجم تماما مع الميولات الديمقراطية للقبائل البربرية وطبائعها. وقد استهدف مروجو هذه الأحكام  والمزاعم، الإعداد إديولوجيا ، للخطة الإستعمارية التي كانت ترمي إلى تقسيم البلاد إلى منطقتين قضائيتين إثنتين ، شرعية وعرفية، في إطار تطبيق السياسة  المسماة بالبربرية والتي توجت بصدور الظهير البربري الشهير في 16 ماي 1930.  وفي نفس الإطار اهتم الباحثون الفرنسيون أيضا باللهجات البربرية، ودونوا البعض من التراث الثقافي الشفوي للناطقين بها. وبما أن البربر، حسب زعمهم ، ينحدرون  من أروبا ، وأن البربرية مجرد لهجة، فقد أعاروها الحروف الللاتينية، وبلغت بهم الجرأة إلى إصدار مجلة بالقبايلية، في الجزائر، وتدوين جوانب معينة من الحياة الثقافية لعدد من القبائل الأمازيغية المنتشرة بجبال الأطلس المغربية، بالحروف اللاتينية. وقد استهدف الفرنسيون من وراء عزل البربر عن العرب ، وإثبات  أصلهم الأروبي ، التمهيد لإدماج  إفريقيا الشمالية برمتها في المجموعة الفرنسية. وبما أن هذا الإدماج لا يمكن أن ينجح إلا إذا كان البربر والأروبيون ينحدرون من أصل واحد ، فقد عمد دهاقنة الإستعمار إلى توظيف التاريخ، وتزوير الحقائق ، لإثبات أروبية البربر، وسلخهم عن إخوانهم سكان شمال إفريقيا.   هذه هي جذور النزعة البربرية ، والبذور الخبيثة التي زرعها دهاقنة الإستعمار  في كياننا والتي بدأت هذه الأيام تنبت كالأعشاب الضارة التي،  إذا لم يتم تنقيتها  واستئصالها، ستدخل المغرب في منعطف هوياتي خطير،  قد تغذيه جهات خارجية لاتريد الخير لهذه البلاد.

عن الكاتب

صحفي

تاونات جريدة إلكترونية إخبارية شاملة مستقلة تهتم بالشأن المحلي بإقليم تاونات وبأخبار بنات وأبناء الأقليم في جميع المجالات داخل الوطن وخارجه.

عدد المقالات : 7245

اكتب تعليق

لابد من تسجيل الدخول لكتابة تعليق.

جميع الحقوق محفوظة لموقع تاونات.نت - استضافة مارومانيا

الصعود لأعلى