شهادة إبن إقليم تاونات أحمد المرزوقي الشفوية والمكتوبة: بين استراتيجية الشاهد وآليات اشتغال الذاكرة

أحمد المرزوقي وكتابه الزنزانة رقم 10

أحمد المرزوقي وكتابه الزنزانة رقم 10

الرباط:رضوان كيحل-عبد الصمد الزاكي/يعتبر تاريخ الزمن الراهن “عصر الشهادة” بامتياز كما ينعته المؤرخون، حيث أصبحت الشهادة الشفوية أو الكتابية مصدرا لا غنى عنه لمؤرخ الزمن الراهن،  خاصة أمام غياب المصادر التقليدية التي اعتاد توظيفها في أبحاثه (الوثائق الرسمية بصفة أساسية).

والشهادة عموما كيفما كان نوعها كتابية أو شفوية تحيل بشكل مباشر على الذاكرة، مصدر إنتاجها، ومن ثم إلى ثنائية كتابة التاريخ/ إنتاج الذاكرة، وهي إحدى الإشكاليات التي طال النقاش حولها، باعتبار أن التاريخ ينضبط إلى مجموعة من المعايير العلمية الدقيقة والصارمة، بينما الذاكرة، كما وصفها بيير نورا “لا تنتقي إلا التفاصيل التي تريحها، وتتغذى على ذكريات ضبابية، عامة أو طافية، خاصة أو رمزية، حساسة لكل تحول أو نقد أو إسقاط”. مما يجعل المؤرخ مطالبا بتوخي الحذر التام عند تعامله مع الذاكرة، بالحرص الدائم على استجلاء رهاناتها الظرفية من خلال استحضار سياق الظرفية التي أنتجت فيها المذكرات أو قيلت فيها الشهادات، وهي ظرفية مغايرة تماما للمرحلة التي جرت فيها الأحداث. وبالتالي تلافي الخلط بين التاريخ والذاكرة الذي اعتاد بعض الصحفيين الخوض فيه(1).

وشهادتا أحمد المرزوقي (الشفوية والمكتوبة) موضوع هذا المقال، هما ترجمة ملموسة للإكراهات التي تطرحها الذاكرة سواء بالنسبة لمنتجها نفسه، أو للمؤرخ الذي سيشتغل عليها. وسنحاول عبر الصفحات التالية، من خلال مقارنة وتحليل الشهادتين اللتين قدمهما المرزوقي في كل من كتابه الزنزانة رقم 10 وبرنامج “شاهد على العصر”، الوقوف عند أهم الإكراهات التي يطرحها توظيف الشهادة كمصدر لكتابة التاريخ، من خلال  تقديم مقتضب للشاهد والشهادتين في مرحلة أولى، ثم تناول الجوانب الشكلية للشهادة بنوعيها الشفوي والمكتوب في مرحلة ثانية، والمقارنة بين مضامين الشهادتين في مرحلة ثالثة.

أولا :التقديم

1- التعريف بالشاهد:

ولد أحمد المرزوقي سنة 1947 بقرية بوعجول بدائرة غفساي بإقليم تاونات، وتلقى تعليمه الابتدائي بغفساي، ثم تنقل بين فاس والرباط ومكناس لإتمام تعليمه الثانوي. التحق بالأكاديمية الملكية العسكرية سنة 1967، وتخرج منها سنة 1969 ضابطا برتبة ملازم ثاني، وقضى سنة في فوج المشاة، ثم عين سنة 1970  بمدرسة اهرمومو شرق مدينة فاس كمدرس و مدرب عسكري. وفي سنة 1971 وجد نفسه وكافة منتسبي هذه المدرسة متورطا في المحاولة الانقلابية الفاشلة المعروفة تاريخيا بمحاولة انقلاب الصخيرات ضد الملك الحسن الثاني بقيادة المقدم امحمد اعبابو. وبعد فشل المحاولة حكم عليه بالسجن خمس سنوات، لكنه قضى أكثر من ثمانية عشر سنة في سجن سري يعرف بسجن تزممارت.

2- :تقديم الكتاب:

الزنزانة رقم 10(2) هو كتاب من الحجم المتوسط يقع في 325 صفحة، صدر أولا باللغة الفرنسية سنة2001، ثم ترجم من طرف المؤلف نفسه سنة2003 .ويمكن تقسيمه عموما حسب المواضيع التي أثارها الكاتب إلى ثلاث مراحل كبرى وهي:

مرحلة ما قبل تازمامارت: تحدث فيها عن الأجواء السائدة في مدرسة أهرمومو، والمحاولات الانقلابية الأولى. ثم انتقل إلى وصف مجريات محاولة انقلاب الصخيرات، مركزا بشكل خاص على براءته، ليصل إلى مرحلة الاعتقال وأطوار المحاكمة، ويختم بظروف ترحيله هو وومجموعة من النزلاء إلى سجن تازمامارت.

مرحلة تازمامارت :خصص لها الجزء الأكبر (حوالي 158 صفحة) تناول فيها مشاهد الحياة بالسجن، مرورا بأجواء الاتصالات التي ربطها السجناء بذويهم بمساعدة الحراس (اتصالات الملازم مبارك الطويل مثلا). مع التركيز على بعض اللحظات القوية التي ميزت هذه الحياة السجنية سواء الأليمة منها كمحنة محمد الغالو، أو السعيدة منها الحاملة لبشائر الأمل والتي ارتبطت بالكلبة هند والحمامة فرج.

مرحلة ما بعد تازمامارت: تبدأ بفصل خروجه من سجن تزمامرت، ولقاءه بأسرته. لينتقل بعد ذلك لوصف مشاهد من حياته وما لاقاه من صعوبات وعراقيل سواء أثناء الإعداد لكتابه، أو خلال فترة الدراسة بالجامعة، ومعاناته من نظرة المجتمع لسجين تزمامارت، ومراوغات وزارة حقوق الإنسان في شأن التعويضات. ليختم بالحديث عن كريستين السرفاتي ودورها في التعريف بقضية سجناء تزمامرت.

3- تقديم الشهادة الشفوية:

أدلى أحمد المرزوقي بشهادة شفوية على قناة الجزيرة الإخبارية، في برنامج شاهد على العصر، من إعداد وتقديم الصحفي أحمد منصور، وذلك طيلة تسع حلقات بمعدل 45 دقيقة للحلقة الواحدة، خلال الفترة الممتدة مابين 23 فبراير و27 أبريل من سنة 2009. وقد استعرض خلالها المرزوقي رفقة الصحفي مرحلة الصبى والدراسة والانخراط في الجندية (الحلقة الأولى)، ثم مجريات المحاولة الانقلابية بالصخيرات سنة 1971 (الحلقة الثانية والثالثة)، ولحظة الاستسلام وأطوار المحاكمة، والمحاولة الانقلابية الثانية سنة 1972 (الحلقات الرابعة والخامسة). ثم أفرد حيزا كبيرة من الحلقات (الحلقة السادسة والسابعة والثامنة) لمشاهد من الحياة داخل سجن تزمامرت ( تنظيم الحياة، العلاقة مع الحراس، الأكل، الأمراض، الوفيات…). بينما خصص الحلقة الأخيرة للحظة الخروج من السجن سنة 1991، ولقائه بأسرته وخاصة والدته.

ثانيا: الجوانب الشكلية في شهادة أحمد المرزوقي:

1-التحضير للاستجواب وعلاقة الصحفي بالشاهد:

اختار الصحفي أحمد منصور أحمد المرزوقي، لتسليط الضوء على قضية محاولة انقلاب الصخيرات وتجليات الحياة بسجن تزمامرت. ويظهر من خلال مجريات الحوار مدى الاطلاع الواسع للصحفي على مجريات أحداث الصخيرات، فقد جمع معلومات هامة أولا عن الشاهد، ثم ثانيا عن الأحداث موضوع الشهادة. ذلك أنه ذكر العديد من المراجع والمصادر التي اعتمدها في التهيئ لهذا الموضوع، ككتاب “صديقنا الملك” لجيل بيرو(3)، ومذكرات محمد الرايس، وروايات الملك في استجواباته مع بعض الصحفيين الأوربيين والمنشور أحدها في كتاب ذاكرة ملك. وأفادت معطيات هذه المراجع الصحفي  في توضيح بعض تفاصيل الأحداث، ومقارنتها وطرح بعضها على الشاهد لإبداء رأيه فيها.

من جهة أخرى يظهر أن العلاقة بين الشاهد والصحفي قد بنيت قبل بث الحلقات المتلفزة، فقد ذكر الصحفي أن المرزوقي قد جمعه بالعديد من “التزمامرتيين” في جلسات حميمية، وهو نوع من الإعداد النفسي للشاهد، وهذا أساسي في إجراء الاستجوابات وتكوين المصادر الشفوية.

لكن الملاحظ، هو جعل نوع من المسافة بين الطرفين وانعدام ديكتاتورية الشاهد، و ذلك من خلال تدخل الصحفي لتوجيه سير الحوار، ووقوفه عند بعض دقائق الأحداث رغم استمرار الشاهد في استطراد الحديث، أو تدخله لقطع الحوار لرواية بعض التفاصيل الجزئية. ويمكن أن نضيف هنا، التأثير النفسي الممارس من طرف الصحفي، ولو بتقاسيم الوجه وبعض التنهدات الداخلية، بالإضافة إلى تدخلاته القوية أحيانا بصوت مرتفع في طرح بعض الأسئلة. وهو نوع من إثارة حفيظة الشاهد  جلبا للاستعطاف، وإبرازا لفداحة بعض مشاهد الأحداث، وهذا ما يجعلنا نتحدث عن ديكتاتورية المحاور، خاصة وأن هذا الأخير كان يطلق العديد من الأحكام الجاهزة تجاه نظام الحسن الثاني.

2- طريقة وأسلوب الاستجواب:

اعتمد الصحفي أحمد منصور في أغلب مراحل الشهادة أسلوب التداخل بينه وبين الشاهد، عبر طرح السؤال، وانتظار جواب الشاهد مع التدخل لطلب توضيح بعض دقائق مشاهد الأحداث، والإلحاح على بعض الجوانب الحساسة في مشاهد الأحداث وخاصة أحداث الصخيرات. بيد أن الملاحظ أيضا هو طرحه بعض الأسئلة التي تبدو محرجة أحيانا للشاهد؛ كسؤاله عن بعض الشخصيات من المشاركين في العملية الانقلابية، هل مع الانقلاب أم لا؟ وإلحاحه على ذكر الأسماء. والملاحظ أن المرزوقي كان يجيب دون تردد، وتظهر عليه الجرأة والصراحة أحيانا، لكن في جوانب أخرى نجده يتأخر في الجواب مع بعض الابتسامات التي تنم عن التلكؤ في الجواب الصريح؛ مثلا أن المقصود “بأصحاب القجج” في كلام اعبابو بالقيادة العامة هم الفاسيين، هذا فضلا عن بعض الأجوبة المبهمة أو الناقصة.

3- لغة وأسلوب سرد الأحداث في الشهادتين:

اعتمد أحمد المرزوقي في سرد الأحداث سواء في الرواية الشفوية أو المكتوبة باللغة العربية الفصحى، وهو عموما ما سهل مأمورية الصحفي في جعل سير الحوار سلسا و سهلا، ومفهوما لدى المتلقي. و يبدو أن هذا ما جعل الإقبال على برنامج شاهد على العصر كبيرا أثناء بث شهادة المرزوقي في المغرب وخارجه، وترجمها أيضا ذلك الصخب الذي أثارته شهادته في الصحف الوطنية. وهذا عكس ما حصل مع شهادة الطيار صالح حشاد مثلا أو شهادة محمد بن سعيد ايت ايدر(4)، فقد كان الصحفي يتدخل كثيرا لتوضيح بعض العبارات بالدارجة المغربية أو بالفرنسية الواردة في أجوبة هذين الشاهدين. ومن مميزات كتابة المرزوقي الاهتمام بالوصف المسهب للأحداث ولبعض التفاصيل الجزئية، مستعملا عبارات السرد الحكوي مع ضمير المتكلم (أقمنا، شرعنا، أنفاسنا…)، وهو ضمير ناب فيه عن جميع أصدقائه، إضافة إلى إيراده ما اصطلح عليه باللغة التزمامرتية التي كانت عبارة عن رموز ابتكرها نزلاء هذا السجن (خرابجو، خرخاش، المسمنة…).

أما فيما يخص أسلوب سير الأحداث، فالملاحظ اعتماد التسلسل الكرونولوجي للأحداث سواء في الرواية الشفوية أو الرواية المكتوبة. والأسلوب الكرونولوجي مهم في سير الأحداث، وتتبع العلاقات الرابطة بينها، بإبراز الأسباب و المسببات وربطها بالنتائج. وهو الأسلوب الأساسي الذي اعتاده المؤرخ الذي يهتم بسير الأحداث في تسلسلها الزمني وترابطها الموضوعاتي، وأيضا مهم عند المتلقي المتابع لسير الشهادة. وحتى الصحفي أحمد منصور كثيرا ما لاحظناه مهتما بهذا الأسلوب، فيعيد الشاهد إلى لحظات تسلسل الأحداث عندما كان ينتقل إلى لحظات أخرى في سيرها، وذلك ضمانا للفهم الأمثل.

4- مصادر الشهادة وقضية الذاكرة:

الشاهد حسب فرانسوا بيداريدا François Bedarida يحمل ثلاثة معاني(5)المعنى الأول تاريخي فهو إما فاعل أو متفرج ينقل ما رآه أو سمعه، وفي هذه الحالة يمكن أن نتحدث عن شاهد عيان أو شاهد سماع، وهو ما تكرر عند المرزوقي في عدة صيغ وتعابير مثل” شاهدت” و”سمعت”و”كنت حاضرا”. أما المعنى الثاني فهو قانوني، بمعنى أن الشاهد مؤهل للفصل في النزاع بحكم معاصرته للأحداث، ويظهر ذلك من خلال اصدار المرزوقي أحكاما، مثل دفاعه عن الجنرال حمو. بينما المعنى الثالث فهو فلسفي أخلاقي، فالشاهد هنا ينصب نفسه ناطقا باسم الحقيقة باعتباره مشاركا في الأحداث، هذا الأمر نلاحظه عند المرزوقي من خلال استعماله كلمة “أعتقد” أو “أرى”.

انطلاقا من هذه المعاني الثلاث، يمكن تناول شهادة المرزوقي، وما تطرحه من اشكاليات ترتبط أساسا بالذاكرة وآليات اشتغالها وفق المعطيات التالية:

 اعتمد المرزوقي في روايته لهذه الأحداث على ذاكرته، وما اختزنته من وقائع وشخصيات ومشاهد. وقد قسم ذاكرته إلى قسمين: قسم رواه من خلال ما شاهده وعاشه من أحداث، وقسم آخر رواه انطلاقا من روايات أصدقائه عندما كان بسجن تزمامرت، حيث كان لهم متسع من الوقت لتدارس ورواية التفاصيل وجزئياتها. وهكذا كرر كثيرا عبارة “جزء شاهدته” و”جزء أخر حكاه لي أصدقائي” سواء في الرواية الشفوية أو المكتوبة، بهذه الأخيرة أورد الجملة التالية في الصفحة 29 “وسعيا مني إلى توخي أكبر قدر من الموضوعية والصدق، تملي علي الحقيقة أن أؤكد، أن كل ما سأرويه هنا، هو خليط مما رأيته رأي العين، ومما سمعته محققا من أفواه أصدقائي قبل و خلال وبعد محاكمة القنيطرة، وبالخصوص طوال مقامنا في تزمامرت“. هذا ما يجعلنا نطرح عدة تساؤلات حول صدق هذه الروايات من جهة، والمشاكل التي تعتري الذاكرة من جهة أخرى.

 فبخصوص الروايات التي سمعها الشاهد من أصدقائه تطرح فيها عدة علامات استفهام ، حول صحة محتواها. إضافة إلى زاوية نظر كل واحد من هؤلاء الأصدقاء والمختلفة طبعا، وأيضا تباين مستواهم الثقافي، فالكثير منهم ذوي مستويات تعليمية متوسطة أو متدنية، فقد كانوا خليطا من الضباط الصغار وضباط الصف، لذلك فحتى مستوى المسؤولية العسكرية متفاوت. وكل هذا يؤثر على فهمهم لهذه الأحداث ومستوى إدراكهم لمغزاها، بل وحتى ما رواه المرزوقي من خلال معاينته لبعض هذه الأحداث يطرح بعض التساؤلات حول الذاكرة وآليات اشتغالها. فمعلوم أن الذاكرة تتسم ببعض الخصائص كالنسيان، والانتقائية، أو الرغبة في توجيه الأحداث صوب وجهة تخدم أغراض خاصة، والسعي إلى بناء صورة معينة.

 فأثناء رواية المرزوقي لهذه الأحداث كان كثيرا ما يرفقها بكلمة “أعتقد”، وهذا معناه عدم التأكد مما يرويه. وحتى عندما يوجه إليه الصحفي سؤالا أو يطلب منه رأيه فيما يرويه من بعض المراجع كان يكرر كلمة “أعتقد” وأحيانا “لا أعلم” أو “لم أر”، ويردف معها “لأبقى منسجما مع نفسي”. وهنا نطرح بعض الأسئلة: فهل هو حقيقة لا يعلم أو أنه أغفل أو نسي ذكرها؟ أم أنه لا يريد إظهار الحقيقة في بعض المشاهد والأحداث؟ مثلا ما ذكره حول كيفية موت اعبابو، فقد روى أنه شاهد مقابلة اعبابو للجنرال البوهالي وتراشقهما بالنار، وأكد أنه كان قريبا من المشهد فوق بعض سطوح القيادة العامة، لكنه أكد من ناحية أخرى بأنه لم ير ما قيل حول أن عقا الذراع الأيمن لأعبابو هو من أجهز على هذا الأخير بناءا على طلب اعبابو بعد إصابته برصاص الجنرال، رغم أن عقا كان معهم بالسجن بالقنيطرة، ويفترض أنه حكى للجميع الواقعة. ومن جهة أخرى فإنه صرح في كتابه بأن عقا هو القاتل دون شك ( ص41). ونفس الملاحظة مثلا يمكن إبدائها حول نازلة مقتل الجنرال المدبوح، وهذا عكس رواية الرايس للواقعتين، الذي روى دون تردد أو إظهار شك(6)، فهل لأن الرايس كان اقرب منه أم أن المرزوقي لا يريد إظهار الحقيقة؟ فالملاحظ انه كان يتحفظ من ذكر كل التفاصيل وإخفاء بعضها، مثل زيارة الملك الحسن الثاني لسجن تزمامرت سنة 1979(7).

كتاب تزممارت أو الزنزانة رقم 10

كتاب تزممارت أو الزنزانة رقم 10لصاحبها أحمد المرزوقي

ثالثا:قراءة في مضامين الشهادة بنوعيها الشفوي والمكتوب:

1- أطروحة الشاهد:

دافع المرزوقي في مختلف مراحل الشهادة بنوعيها عن براءته هو وأصدقائه من أي تخطيط، أو نية سيئة للقيام بالمحاولة الانقلابية ضد الملك الحسن الثاني سنة 1971. و ظل يؤكد أنهم كانوا يعتقدون أنهم ذاهبون لمناورة عسكرية بابن سليمان، وأن ما تعرضوا له من تنكيل وتعذيب ومعاناة، سواء أثناء الاستنطاق أو بسجن القنيطرة أو بسجن تزمامرت هو ظلم وحيف كبير اقترفه المخزن في حقهم. وردد بهاتين الشهادتين عبارات الإصرار والإلحاح على هذه البراءة وهذا الظلم الجسيم (لم نخطط، لم نبيت، لم نكن نعلم ، عذبنا، أشياء فضيعة، اختطفنا…). ويدعم المرزوقي هذه الأطروحة بعدد من الحجج والدلائل مثل كونهم ضباطا صغارا (أغلبهم برتبة ملازم ثاني أو أول، وعدد قليل منهم برتبة نقيب).

2- قضايا أثارها في الشهادة الشفوية ولم يثرها في الشهادة المكتوبة:

تخضع كتابة المذكرات ورواية الشهادات لظرفية السياق الذي أنتجت فيه(8)، ويظهر هذا من خلال شهادتي المرزوقي، ذلك أن ظرفية إصدار كتاب الزنزانة رقم 10 (سنة 2001) لا شك أنها تختلف عن سياق شهادته الشفوية (سنة 2009). ومن هذا المنطلق فقد أثار المرزوقي في شهادته الشفوية عدة قضايا أغفلها في شهادته المكتوبة، يمكن إجمال أهمها في قضيتين أساسيتين، تتعلق القضية الأولى بتقديم معطيات جديدة تزكي براءته. أما القضية الثانية فتتعلق بإضافة معطيات جديدة حول ثلاث شخصيات عسكرية، بهدف تلميع صورها ويتعلق الأمر بالجنرال محمد المدبوح، والجنرال محمد افقير، ثم الجنرال حمو.

فبخصوص القضية الأولى، فقد أكد بأنه هو الشخص الذي أنقذ المربية البلجيكية من طلبة مدرسة اهرمومو، وأيضا هو الذي دافع عن الطفل الذي كان معها دون علمه بهويته، ولم يكن ذلك الطفل سوى الأمير محمد ( الملك محمد السادس حاليا). كما أكد بأنه هو الجندي الذي أمره اعبابو بأن يقتل العقيد أبو الحمص ولكنه رفض، في حين أكد بأنه ساوره الشك بأن ما يقومون بالتحضير له هو انقلاب عسكري، وذلك بعد أن أخبرهم طبيب المدرسة بذلك، ولكنه زال عنه الشك بعد الخروج من مدينة الرباط أثناء التوجه نحو الصخيرات.

أما بخصوص القضية الثانية، والمتعلقة بتسليط الضوء على بعض الشخصيات العسكرية بهدف تلميع صورها. فقد أكد بأن الجنرال محمد المدبوح قائد محاولة انقلاب الصخيرات كان رجلا نزيها ومستقيما، وأن الباعث الأساسي الذي جعله يفكر في القيام بمحاولة انقلابية هو تدمره من الفساد السائد في المغرب في تلك المرحلة. كما يضيف بأن المدبوح ينتمي إلى نفس المنطقة التي ينتمي إليها المقدم اعبابو، المنطقة التي عرفت أحداثا دامية بين سنتي 1958 و1959، وهو الأمر الذي جعله يفكر في الانقلاب على النظام. أما بخصوص الجنرال محمد أوفقير فقد أكد المرزوقي بأن أوفقير كان اسمه مقرونا بمراكز التعذيب، ولما تولى شؤون وزارة الدفاع استحسنه الجيش، لأنه قام بحل الكثير من القضايا التي كان يعرفها الجيش أنذلك. أما تورطه في المحاولة الانقلابية الأولى، فقد عرض الصحفي رأي عبد الهادي بوطالب، الذي أكد أن أوفقير قال للمذبوح واعبابو “إن نجحتم أنا معكم وان فشلتم فسأذبحكم(9)، فإن المرزوقي أجاب بعدم معرفته الحقيقة. كما أكد أن ما قيل عن الجنرال حمو من كونه نطق ب “عاش الملك” قبل اعدامه أنه كذب، ويدخل في إطار التنقيص من هيبة الرجل الذي يحظى بهالة كبيرة في الجيش. ولم يغفل المرزوقي التأكيد على وجود متورطين من الجيش في المحاولة الانقلابية، الذين سرعان ما غيروا المعسكر بعد فشل المحاولة الانقلابية.

3-  قضايا أثارها في الكتاب ولم يثرها في الشهادة الشفوية:

يبدو أن من بين القضايا التي تحدث عنها المرزوقي بإسهاب في الشهادة المكتوبة، ولم يتحدث عنها( أو تغاضى عن ذكرها) في الشهادة الشفوية هي شخصية المقدم اعبابو مدير مدرسة أهرمومو. لقد أشار المرزوقي في الشهادة المكتوبة إلى نقص حماس اعبابو وكثرة غيابه عن المدرسة، وعدم مبالاته بسير الدراسة في الأيام الأخيرة التي سبقت المحاولة الانقلابية، وكذلك قيامه بالإشراف على تجريب فعالية بعض القذائف الأمريكية الحية، وقد أكد هذا محمد الرايس في مذكراته(10). والحال أننا نجد المرزوقي في شهادته الشفوية يحيط مدير المدرسة بهالة من الصرامة والانضباط والحضور الدائم إلى المدرسة، بل وحتى الصحفي لم يثر هذه المسألة رغم تأكيد كل من محمد الرايس وأحمد المرزوقي على هذا الامر في الشهادة المكتوبة كما أشرنا.

وهناك قضية أخرى تتعلق بعلاقة السجناء مع بعضهم داخل معتقل تازمامارت، حيث أشار في الشهادة الشفوية إلى أن الصراعات كانت تنشأ في غالب الأحيان عندما يتعلق الأمر بوجود مجلة أو أشياء أخرى مشابهة. بينما في الشهادة المكتوبة نجده يتحدث عن علاقة السجناء داخل المعتقل بإسهاب، ذلك أنه أشار إلى انقسام السجناء إلى ثلاثة فرق، منهم من تصرف بأنانية، ومنهم من كان ضعيفا، ومنهم من كان على مستوى عال من التضحية، مؤكدا أن السبب الرئيسي في الصراع داخل المعتقل هو المال، الذي توصل به بعض المعتقلين.

4- بعض القضايا الجانبية غير المقصودة في الشهادة:

من المفيد بالنسبة للمؤرخ التطرق إلى عدد من القضايا الجانبية التي أثيرت في الشهادة، والتي جاءت في سياق الكلام عن أحداث الصخيرات، وسجن تزمامارت دون القصد من ذلك، وفيما يلي أبرز هذه القضايا:

أحمد المرزوقي

أحمد المرزوقي على قناة الجزيرة الدولية

  • قادة الجيش المغربي : ذلك أن قادة الجيش المغربي الذين تولوا المناصب الحساسة في الجيش، عملوا بالجيش الفرنسي مثل الجنرال حمو وبوكرين، و”قيل” أن هذا كان أحد شروط وثيقة استقلال المغرب (حسب المرزوقي).

  • أحداث الريف 1958 و1959: أثار الشاهد قضية أحداث الريف الدامية والتي عمل المخزن خلالها برئاسة ولي العهد مولاي الحسن ومساعده أفقير على دك المنطقة عن آخرها، فذهب ضحية ذلك آلاف المواطنين (دائما حسب الشاهد)، وهذه القضية لا تزال أثارها بادية إلى اليوم، والمتمثلة في نظرة سكان المنطقة للمخزن ومواطني الداخل، بل وكانت حسب المرزوقي أحد دوافع تنفيذ انقلاب الصخيرات بحكم انتماء اعبابو والمذبوح للمنطقة .

  • قضية الحدود بين المغرب والجزائر: فمن المعلوم أن فرنسا تركت الحدود بين الطرفين غامضة، وهو ما تسبب في توتر العلاقات بين حكومتي البلدين بعيد الاستقلال، والذي ترجم في حروب نشبت بين الطرفين مثل حرب الرمال التي لازالت ترخي بظلالها على علاقة البلدين، فالشاهد أكد أن العدو المفترض عند الجيش المغربي آنذاك كان الجزائر.

  • السياق التاريخي لأحداث الصخيرات: فقد بين الشاهد أن المرحلة التي وقعت فيها أحداث الصخيرات كانت موسومة بالصراع السياسي، وحالة من الغليان السياسي تجلت بالخصوص في حملة الاعتقالات والمحاكمات، ومظاهر التعذيب التي لحقت عددا من المناضلين، ولاسيما مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية متزعم المعارضة أنداك. وقد أورد المرزوقي بأنه هو وأصدقائه كانوا يعتقدون أنهم ذاهبون لمحاصرة بعض هؤلاء المناضلين أثناء استعدادهم للخروج من اهرمومو، وقال بأن محاكمة هؤلاء كانت جارية آنذاك بمراكش.

  • قضية بن بركة: أثار الشاهد هنا قضية شائكة وغامضة في تاريخ المغرب الراهن، وهي قضية اغتيال المناضل المهدي بن بركة. فقد أثار ما يقال عن تورط الدليمي في تصفيته إذ يقول عن الدليمي في الصفحة 74 من كتابه “المتورط إلى العنق في قضية اختطاف وتصفية المعارض بن بركة “.

خاتمة عامة:

من خلال ما سبق في التحليل والمقارنة أعلاه، يمكن استنتاج الخلاصات التالية:

  • توجيه مضمون الشهادة في تجاه رسم صورة معينة عن الذات، إيجابية قطعا.

  • رغبة الشاهد الواضحة في استثارة تعاطف المتلقي معه من خلال إبراز بعض مظاهر المعاناة داخل وخارج السجن.

  • سعي الشاهد الحثيث طوال مراحل الشهادة لإثبات براءته وتأكيد تعرضه للظلم.

  • انتقائية الذاكرة، التي ظهرت من خلال ما سبقت الإشارة إليه، من إسهاب الشاهد في الحديث عن بعض القضايا، و إحجامه عن الإدلاء بشهادته في مواضيع أخرى.

  • ذاتية الشهادة، خاصة عندما يتعلق الأمر بمواقف شخصية من بعض الأشخاص أو المؤسسات.

إجمالا، أثارت القراءة في شهادة المرزوقي عدة قضايا وإشكالات، منها ما يتعلق بالجوانب الشكلية والخاصة أساسا بالذاكرة، وما تطرحه من صعوبات أمام المؤرخ، ثم المضامين التي أثارها من وقائع و أحداث لا يزال الكثير منها غامضا إلى اليوم، والبعيدة عن متناول المؤرخ، أو الباحث المهتم بتاريخ هذه المرحلة سواء السياسي أو عالم الاجتماع أو الصحفي الذي ينشد الأخبار المثيرة والمشوقة، ولربما هذا ما ميز الشهادة الشفوية التي عمل الصحفي احمد منصور من خلالها على إثارة عدد من القضايا المثيرة والغريبة، جلبا للمتلقي ودفعه إلى متابعة الشهادة، وهو ما يختلف عن عمل المؤرخ الذي يروم البحث عن الحقيقة وفهم ما جرى في سياقها التاريخي.

لذلك، يجب البحث عن صيغ منهجيه مثلى للتعامل مع هذا النوع من  المصادر، خاصة الشفوية منها للاستفادة منها في تسليط الضوء على أحداث تقل فيها المصادر المكتوبة التاريخية، وإحداث تراكم معرفي ومنهجي يساهم في فك الغموض الكبير الذي يلف الكثير من تفاصيل أحداث تاريخ المغرب الراهن.

الهوامش:

[1] –  تناول عبد الأحد السبتي موضوع التاريخ والذاكرة، وميز بين الكتابة التاريخية التي ينتجها المؤرخ و كتابة الفاعلين والصحفيين التي تندرج في إطار الذاكرة، أنظر:

Sebti, (Abdelahad), «Histoire et présent: interrogations sur la distance et la proximité», dans collectif du protectorat à l’indépendanceproblématique du temps présent, Publications de la Faculté des Lettres et des Sciences Humaines- Rabat, Série: Colloques et Séminaires, n 133, Rabat, 2006, pp. 49-50.

2- المرزوقي (أحمد)، تزمامارت: الزنزانة رقم 10، منشورات طارق، الدار البيضاء، 2003.

3- بيرو (جيل)، صديقنا الملك، ترجمة ميشيل خوري، دار ورد للطباعة، 2002، ص. 18.

4- حشاد (صالح)، برنامج شاهد على العصر، قناة الجزيرة الاخبارية، تقديم أحمد منصور، شهري ماي ويونيو 2009.

– آيت إيدر (محمد بن سعيد)، برنامج شاهد على العصر، قناة الجزيرة الاخبارية، تقديم أحمد منصور، شهر ابريل 2010.

5- ورد عند الصنهاجي، (عبد الحميد)، “المؤرخ والشاهد: الكوم المغاربة في حرب الهند الصينية / 1954″، ضمن ندوة التاريخ الحاضر ومهام المؤرخ، منشورات كلية الآداب والعلوم والإنسانية بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 158، 2009. ص. 72.

6- الرايس (محمد)، من الصخيرات إلى تزمامارت:تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم، ترجمة عبد الحميد جماهري، إفريقيا للنشر، 2010، ص.59

7- كشف المرزوقي عن هذه الحقيقة في لقاء له بطلبة ماستر تاريخ الزمن الراهن، الفوج الثاني، تأطير الموساوي العجلاوي، يوم 27فبراير 2013.

8- هناك كثير من الدراسات التي قارنت بين روايتين شفويتين لنفس الشاهد تختلفان باختلاف السياق، أنظر على سبيل المثال:

Maougal,) Mohamed Lakhdar(, «Octobre 88, la parole suppliciée: analyse d’un témoignage en deux temps, 1988 et 1998: Nourredine Khallout dit Ras El Kabous», dans collectif Emeutes et mouvements sociaux au Maghreb : perspective comparée,Paris, Karthala, 1999, pp. 339-349.

9- بوطالب (عبد الهادي)، برنامج شاهد على العصر، قناة الجزيرة الاخبارية، تقديم أحمد منصور، الحلقة الرابعة بتاريخ 05 غشت 2008.

10–  الرايس (محمد)، من الصخيرات إلى تزمامارت، مرجع سابق، ص 14 و15.

عن الكاتب

صحفي

تاونات جريدة إلكترونية إخبارية شاملة مستقلة تهتم بالشأن المحلي بإقليم تاونات وبأخبار بنات وأبناء الأقليم في جميع المجالات داخل الوطن وخارجه.

عدد المقالات : 7235

اكتب تعليق

لابد من تسجيل الدخول لكتابة تعليق.

جميع الحقوق محفوظة لموقع تاونات.نت - استضافة مارومانيا

الصعود لأعلى