البروفسور خالد فتحي° يكتب عن:يوسف زيدان والقتل الرحيم لصلاح الدين الأيوبي

صلاح الدين الأيوبي

صلاح الدين الأيوبي

الرباط:”تاونات نت”/لا أكتمكم أني من أشد القراء شغفا بيوسف زيدان، بل أنا  من يغري صاحب المكتبة الكبيرة بقرب منزلي بجلب كتبه الجديدة الصادرة عن دار الشروق المصرية، وغالبا ما أحجز  النسخة الأولى منها مما يوزع بالمغرب. الرجل له أسلوب أدبي رفيع عز نظيره، وكتابات مميزة، ومعلومات وفيرة ينهل فيها من التاريخ والفلسفة والدين والتراث،  ويدون باسترسال روائي ممتع وإطباق تام على عقل القارئ وشعوره. و لكني، رغم كل هذه الخصال التي أعترف  بها له، لم أتمكن لليوم من منحه شيك إعجاب على بياض، كما فعلت مع كتاب آخرين أرضى كتابتهم وأرضى سريرتهم أيضا.
يوسف زيدان من طينة أولئك الكتاب المثيرين للجدل الذين تحير معهم بسبب خرجاتهم التي تتوالى بشكل سريع، جريا محموما منهم وراء ذيوع الصيت والشهرة، أو تفانيا منهم بكل بساطة في خدمة مشروع سياسي أو إيديولوجي مقنع تعوزهم الشجاعة للإفصاح عنه علانية.
مناسبة هذا الحديث تحامل كاتبنا هذا  المبالغ فيه مؤخرا على يوسف صلاح الدين الايوبي محرر القدس وبطل الحروب ضد الصليبيين. هذا التحامل الذي يبغي إسقاطه من تلك  الصورة التي جعلت له في مخيال العرب والمسلمين، والتي يبدو أنها تثير حنق  زيدان لتجعله يتاخم بتحامله حدود التشهير المنظم والمخطط له، بل انه يبلغ أحيانا من خلال بعض التصريحات الطائشة درجة عليا من الحقد والمقت لهذه الشخصية العظيمة أو التي نتوهمها عظيمة إذا ما وثقنا بمذهب زيدان في البحث والكتابة.
لقد ألصق كاتبنا بصلاح الدين كل موبقات التاريخ، ونزع عنه فضيلة الجهاد والتقوى، بل وحتى صفة الإنسانية، وبلغت به جسارة الهجوم إلى وصفه بأنه من أحقر الشخصيات التاريخية. اعتبره خاءنا للسلطان نور الدين زنكي وللخلفية المعتضد الفاطمي على السواء، ديكتاتورا سفك دماء العلماء كالصوفي شهاب الدين السهروردي، جبارا مفسدا في الارض فلم يصلح يوما، احتجز المئات أو الآلاف من أبناء الأسرة الفاطمية الحاكمة مفرقا بين اناثهم وذكورهم حائلا بينهم وبين الزواج لاستئصال شأفتهم بهذا الشكل الذي لا يقبله دين أو  شرع أو ذوق أو إنسانية. ثم زاد فرأى في حربه ضد الصليبيين ممالئة  لهم على أراضي  المسلمين. بل ومحض تخاذل ومناورة وادعاء للجهاد. وتطرف أكثر في غيظه منه،  فحاكمه على المصائب اللاحقة التي أصابت المصريين والشاميين بعد وفاته على يد المماليك الذين كان صلاح الدين أول من جلبهم كرقيق واستعملهم في أمور الدولة. و لم يتورع فوق هذا، أن يتهمه بكونه هو من حطم نصف الأهرامات ليبني بحجرها قلعته الشهيرة بالقاهرة، ويسوم المصريين الخسف والظلم والاستبداد. أي باختصار شديد، لقد حول زيدان صلاح الدين من بطل قومي الى طاغية نذل. لكننا مع كل هذا التنكيل الذي أوقعه ببطل يحتل إلى اليوم قلوب المسلمين خصوصا وهم يرون تخاذل الحكام العرب عن خوض معركة فلسطين، لن نحاول أن نجادل زيدان في صحة معلوماته، فهو من هو: مدير دار الآثار والمخطوطات المصرية سابقا، والباحث الجهبيذ في أمهات الكتب حول اللاهوت والناسوت، إضافة الى قدرته الحجاجية المبهرة  لدرجة أنه استدل لأجل تحقير بطل حطين بالمؤرخين و العلماء من السنة الذين هم أهل وشيعة صلاح الدين، هذا الكردي الذي كان له الفضل في القضاء على مصر الشيعية وضمها من جديد تحت جناح الحكم العباسي السني في بغداد. ولكننا سنتساءل على مستوى أكبر من هذا. هل من حق زيدان أن يشن كل هذا الهجوم على تاريخ الأمة؟ وهل تبيح له حرية البحث العلمي أن يمرغ سمعة  هذا التاريخ في التراب؟ وهل باسم توخي الحقيقة التاريخية يمكننا دون تأنيب ضمير أن نحطم أيقونات  التاريخ الإسلامي سواء كانت حقيقية أو مصطنعة؟ وهل بمثل هذه الأعمال الأدبية يروم زيدان تخليصنا مشكورا من الأوهام، أو على العكس من ذلك يروم إحباطنا وإقناعنا بلا جدوانا و بأننا عبارة عن شيء ما على الهامش أو  عن لاشيء. مجرد صفر في مضمار الحضارة الإنسانية. أو محض حثالة بشرية؟ وهل إرضاء غرور زيدان مقدم على إرضاء غرور ومخاتلة عنفوان أمة باكملها؟ ثم وهذا هو الأهم هل كان مروره على رأس دار المخطوطات المصرية لصيانة هذا التراث أو لتحطيمه ؟

يوسف زيدان

يوسف زيدان

قد تكون معلومات زيدان صحيحة  فهو الباحث المنقب الذي يملك دائما أكثر من دليل واحد على مزاعمه، لكن مراميه ونواياه ليست صحيحة ولا نزيهة. فكل الشعوب تسعى في لاوعيها ولا شعورها إلى أسطرة بعض الشخصيات وصنع صورتها صنعا تلبية لحاجات نفسية. وصلاح الدين يلبي هذه الحاجة النفسية المستعرة لدى العرب والمسلمين لمقاومة إسرائيل، واستعادة التاريخ الذهبي الذي ولى ربما برجعة أو بدون رجعة. هناك دائما حياة واقعية للبطل كما للأنبياء أنفسهم لأن الكل في النهاية مجرد بشر يأكل  وينام و يحب، وهناك إلى جانب هذا حياة افتراضية يحبكها لهم المريدون من خيالهم يؤثثونها انطلاقا من أمانيهم، وينحتونها نحتا، مرة بأشياء واقعية ومرات كثيرة بأشياء غير واقعية من نسج الخيال والرغبة في البقاء. البطل في المخيال الشعبي دائما أكبر كثيرا مما  كان حقيقة في حياته. هذه العملية المركبة التي تجري و تعتلج في لاشعور الشعوب على مدى أجيال وقرون طويلة هي عملية طبيعية جدا. وحق من حقوقها الأصيلة. وهي نفس العملية التي أصبحت تستغرق الآن وقتا أقصر من خلال صناعة أبطال خارقين يخرجون لنا الآن من فايسبوك و تويتر وانستغرام.
الشعوب تقيم من هذه الشخصيات منارات لها في الليالي البهيمة التي يعز فيها الضوء والمجداف، هي نبراسها الذي يقودها نحو الغد المختلف عن الحاضر. وصلاح الدين قبل أن يحييه جمال عبد الناصر في الفيلم الشهير لأحمد مظهر والذي يحمله زيدان فوق طاقته الفنية والسياسية كفيلم، له الكثير من مبررات البقاء والحياة خالدا في وجدان الشعوب العربية والإسلامية بنفس الوهج والحضور اللذان هو عليهما الآن، و بعيدا جدا عن فكرة المخلص التي تستهوي قلب زيدان. فالجماهير العربية تعرف أن التاريخ لا يكرر نفسه بنفس الشكل. وتعرف أن صلاح الدين جزء من الذاكرة التي نخزن فيها حقنا المشروع في تحرير الأرض السليبة و استعادة الكرامة الضائعة، وأنه مستودعنا الذي نحتفظ فيه بألق الماضي الجميل، وأنه من تلك الشخصيات التي ترسم الأفق، وتحدد السير سواء كانت الصورة المطبوعة عنها صحيحة أو مختلقة. صلاح الدين يؤدي مهمة جليلة في الشعور العربي تحث على المقاومة وعدم التطبيع مع الهوان والصغار.
ولو كان صاحبنا زيدان هذا يبتغي الحقيقة العلمية لاكتفى بنشر ما توصل إليه في مجلات علمية أو ندوات تحضرها النخبة الباحثة في التاريخ. لكنه ينزل بالصورة الجديدة لصلاح الدين إلى المعترك الشعبي لينهال بمعوله على الصورة القديمة ويثبت شيئا آخر مختلفا، شيئا بغيضا ينفر النفوس ويكسرها. يمنحنا بديلا يزرع الإحباط في النفوس، ويشكك الأمة في تاريخها، لنهيها عن النهوض من جديد.

البروفيسور-خالد-فتحي

البروفيسور-خالد-فتحي

اذكر أنه عند تهيئي لأطروحتي في الطب حول التربية الصحية أني قرأت في أحد المراجع أن أطباء أوروبيين مهتمين بمحاربة نقص التغذية كانوا قد اكتشفوا لدى بعض القبائل الإفريقية تقليدا خرافيا يتمثل في أن وضع سوار جلدي لدى الأطفال في المعصم يمنع عنهم الأرواح الشريرة ويجنبهم الوقوع في براثن السحر فكان أن حافظوا عليه ولم يناقشوهم في حقيقته العلمية من عدمها لأن السوار مفيد لمراقبة صحة الطفل التي تكون جيدة بقدر ما يلتصق السوار بالمعصم. والمعنى هنا أنه لا ينبغي أن نتصدى لكل المعتقدات، و أن نحطم كل الأساطير لمجرد أنها زائفة أو لا عقلانية، فبعضها ضروري لشحن همم الشعوب وتعبئتها للخروج من الضعف و التخلف، وحمايتها بالخصوص من الهزيمة النفسية. ماذا كان يضير يوسف زيدان أن يترك لنا صلاح الدين خالصا من الشوائب بالضبط كما نتوهمه؟ فنحن سعداء بهذا الوهم. ماذا ينفع زيدان أن يشكك في وجود العوام المسيحي القبطي الذى أدى الأمانة حيا وميتا، و إلى ماذا يرمي من وراء ذلك غير نسف اللحمة الوطنية التي تجمع المسلمين بالأقباط  بمصر؟
لقد حق أن نسأل عن دواعي هذا القتل غير الرحيم لبطل مسلم نعتبره محقين او مخطئين رمزا للدفاع عن الأرض والعرض؟ وهل فكر صاحب عزازيل في الآثار المدمرة لمثل هذه الكتابات أو على الاقل في الفائدة المتوخاة منها؟ ثم ألم  يكن الاجدى أن يوفر حقده على صلاح الدين ويبحث بعلمه الواسع عن نفض الغبار عن شخصيات عربية وإسلامية أخرى عظيمة نجهلها تقوي فينا جانب الأمل والثقة والاعتداد بالنفس؟ وأخيرا نسأله سؤالا بليدا: لمصلحة من يصب هذا الإجهاز على صورة صلاح الدين؟ هل لإيقاظ العرب والمسلمين من أوهامهم أو  لإيهامهم أنهم ليسوا لا بأمة ولا بحضارة؟

°طبيب اختصاصي في التوليد-مستشفى السويسي بالرباط (من مواليد إقليم تاونات)

عن الكاتب

صحفي

تاونات جريدة إلكترونية إخبارية شاملة مستقلة تهتم بالشأن المحلي بإقليم تاونات وبأخبار بنات وأبناء الأقليم في جميع المجالات داخل الوطن وخارجه.

عدد المقالات : 7250

جميع الحقوق محفوظة لموقع تاونات.نت - استضافة مارومانيا

الصعود لأعلى