إلى المنتهى.. مرنيسة…
وأنت تولي وجهك شطر الشمال، تتراءى لك في اللوحة التشويرية تاونات، يشدك الحنين إلى أصلك، إلى مسقط رأسك، تحن إلى الأم، إلى اأرض، إلى رائحة التراب.. تسارع خطاك كي تأخذ تذكرتك للذهاب إلى الجبل، في الرحلة الموالية، لا تريد أن تضيع وقت آخر، تتسابق إلى أذنيك أصوات تنادي مرنيسة، مرنيسة.. يشدك الحنين أكثر فأكثر، فتتمنى لو تقتصر المسافة لتقربك وتحط بك في حضن والدتك، تقبل راسها وكفيها وتسقط دمعة الإخلال بالواجب…
تمسك بحقيبتك ويحشرك السائق وسط ستة من الخلق، وينطلق بكم في اتجاه الشمال، على أمواج الراديو يصيح المذيع بأن هناك نشره إنذارية من الأرصاد الجوية المغربية، ويعطي لائحة من المدن التي ستجتاحها غضب السماء بالعواصف الرعدية والزخات المطرية التي ستكون مهمة إلى قوية.. تضرب في أذنك مدينة تاونات، تتناثر حروفها عبر الدماغ، يدق قلبك دقات متسارعة، ويعيد النبض على طريقة الحب والحنين والخوف من الكارثة، وتحاول حشر نفسك وسط الضجيج المنبعث من الخلق الذين يجاورنك في رحلتك إلى المنتهى.
منهم من ينتقد، ومنهم من يسب، ومنهم من يبرر، ومن يتنبأ بيوم من الغرق، ومنهم من يصمت، ففي الصمت حكمة كما يقولون.. يزيد السائق من السرعة وينطق راكب: بشوية أمولاي شنو تقلبنا في شي فيراج، ولا تبلعنا شي حفرة، يحدق فيه السائق عبر المرآة الأمامية غير آبه بقوله، ويكمل طريقة بسرعة أكثر..
الكلام الذي أنذر به المذيع عبر الراديو أصبح يكون حقيقة، السماء ملبدة بالغيوم السوداء الثقيلة، غاضبة مكفرة تنذر بالأسود والعاصفة، تتخيل لك أمك رافعة كفها إلى السماء تتضرع من الله عز وجل أن يعطينا كل شي قد النفع، تكمل السيارة بك وبمن معك طريقها وضجيجها، تكاد تختنق من الجو والضغط والضراط وسوء حالة الطريق، السماء لازالت تتوعد بالمزيد عبر أصوات الرعد وخيوط البرق، يدب الرعب في جسدك وتنكمش وسط الستة، يتخيل لك واد اللبن مغمرا بالمياه، والقنطرة منهارة وسطها، أو الأسوء أنها ستنهار لحظة وصلكم لها، تتخيل بدنك أنت والستة وسط المياه في حالة غرق وتصيحون.. تقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وتعود إلى رشدك، سرعان ما تعاود الحالة وأنت تعيد شريط الذكريات إلى الوراء، كيف حصرت المنطقة ذات شتاء من 2010، وأعلنت منطقة منكوبة حيث أصبح الوصول من أسوء رحلات العذاب ومن المستحيلات، تتذكر كيف خانتنا البنية التحتية، وسخرت منا الأحوال الجوية، وتتضرع إلى الله أن يحفظ مرنيسة وأهلها من أهوال السماء وغضبها، وهي التي يخترقها نهر ورغة إذا فاض في لحظة غضب كانت القيامة.
تجتاز قنطرة واد اللبن في سلام والسماء لم تذرف دموعها بعد، فتحمد الله على أنكم عبرتم قنطرة واد اللبن بآمان، إلا من سوء حالة الطريق الوطنية رقم 8 وضجيجها ركابها.. يتدلى رأس راكبة على كتفك من ناحية اليمين، حيث هي تغوص في نوم عميق، أو تدعي.. لا مجال لك للهروب من قبضة راسها المتدلي ناحية الشِمال وأنت تقصد المنتهى والشمال.
تصل بك السيارة واد إناون، يتراءى لك الجو عبر نافذة السيارة يميل إلى السواد التام، ولون مياه النهر على غير عادته، وأن جريانها أخد في تسارع ملحوظ، تنظر من الزجاج الواقي الأمامي الذي يغطي معظمه جسد السائق الممتلئ، ترى الجو مكهربا جدا في الأفق، تتيقن حينها أن غضبة السماء أصبحت حقيقة، وأن رحلتك إلى المنتهى صوب مرنيسة لن تكون بالأمر اليسير.
عجلات سيارة الأجرة تزيد من دورانها إلى الأمام، كأنها هي الأخرى هاربة من كارثة حقيقة ستقع، تصل بك إلى منعرجات تاونات في اتجاه مركز المدينة القابعة في قمة الجبل، تحس بنوع من الانشراح بعد مدة قبض وتشنج، وتحمد الله على سلامتك بأنك وصلت آمنا وأنت الآن في حضن تاونات المدينة الأم، لكن يفسد هذ الانشراح كتفك الأيمن الذي كاد أن ينفلت من منبته بسبب الوزن الزائد للراكبة من ناحية اليمين، يضيق انشراحك أكثر وأنت ترى.. يا لا الهول.. يا إلاهي، جريان مياه عبر المنعرجات وبكمية تثير الفزع، تعيد دعاء أمك في الجبل يا ربي اعطينا كلشي قد النفع، وتسلم أمرك لله وأنت تجد السيارة تدخل المحطة.
تقف السيارة وينطق السائق على سلامتكم، ويهرول نازلا وهو يقول يا لطيف.. تترجل أنت الآخر وتنزل من السيارة، وتجد المحطة فارغة إلا من بياض السيارات المركونة، لا صوت للحركة والضجيج المعتاد، ولا صوت للكورتي حتى، كأنها في لحظة حداد، تسارع الخطى إلى حيث الناس مختبئين من قطرات المطر وحيث الكورتي محشرا بينهم، تسأله مرنيسة الله يحفظك، يرد مزال 2 بلايص تسنى ولا تخلصهم، ولا تخلصوهم وتزيدو بحالكم؟ الجو صعيب اليوم.. تتسارع فيك الأفكار، يتخيل لك وجه أمك وهي تنتظر قدومك وتدعو الله أن يحفظك من السوء، ويتخيل لك وجه السماء الذي تفيض خيرا في بداية المطر، يتخيل لك الانهيارات الأرضية والطرق المنحرفة والمحرفة، وفيضان الاودية، تحط بنظراتك في لحظة تفكير اتجاه قدماك فتجدهم قد غمرتهما مياه أرضية المحطة، تأخذ مكانين دون جدال أو نقاش، ويقول السائق على بركة الله وينظر إليك بنظرات كأنها نظرات المحكوم بالإعدام في آخر لحظاته.
يدير بصعبية مقود السيارة وينطلق في اتجاه الشمال واتجاه المنتهى، الرحلة الآن أقل تشنجا من سابقتها، أنت إذن في حضن تاونات المدينة الولية الصالحة، وأنت على بعد 50 كيلومترا من منتهاك، المطر ينهمر من السماء بانتظام، يقول السائق بأنه من الثامنة صباح لم يتوقف ولو لحظة، يا لها من كارثة تنتظرنا.. يحدثك عن الانهيارات الأرضية السيول الجارفة التي عرقلت السير ساعات في الصباح، وتستغرب: آه الطريق مقطوعة؟ نعم إنها مقطوعة جهة ساحل صباح قبالة بني وليد، وتطرح السؤال الذي يدور في ذهنك، ومنين غادي ندوزو لمرنيسة؟ يرد عليك مولاها مدبر حكيم.
تلعن في نفسك المسؤولين وكل من يعبث بهذا البلد، فكيف لتلة لا تتعدي قاعدتها 500 متر أن تعرقل حركة المرور كل سنة دون أن يجدوا لها حلا؟ تتحول لديك اللعنة من السرية إلى العلن، ينظر إليك الراكبون بنوع من الاستغراب، وسرعان ما ينظمون إليك في سبك ولعنك للوطن.. يضلون على هذا الحال حتى يصل بكم السائق إلى طابور من السيارات والناس مترجلين.
ها لي قلنا ‘ تفو ‘ على نهار، تجري في جسدك الدماء ساخنة، ترتفع درجة حرارتك سريعا، تدخل في حالة غضب، تسب وتلعن وتدوس على الأرض بعصبية، عليكم اللعنة يا مسؤولو بلدي يا أبناء الخونة.. تشاهد بسخرية جرافة تحاول يائسة رفع الجبل المتدلى على قارعة الطريق، لتفتح الطريق في وجه الطابورين.. الناس على أعصابهم وتحس بنفسك أكثرهم، الكل له هدفه من تحركه هذا، والكل يلعن ويسب ويقول اللهم هذا منكر، يقول السائق: لي حل لكم فقط، هناك في الطابور المقابل زملائنا من مرنيسة سنتبادل الركاب، هم من سيأخذكم إلى المنتهى، ما عليكم إلى الترجل في هذا المنحدر – ويشير صوب الوادي الغاضب- والذهاب إلى حيث الطاكسي.
تترجل رحمة بأمك التي تحبس دموعها داخل جفونها وتنتظرك في هذا الجو الكئيب، ينطلق سائق الطاكسي بعصبية تاركا وراءه الناس والحسرة والجرافة تحاول يائسة رفع الجبل، تصل وتجد أمك قد اندفعت دموعها خارج الجفون، كانت تنتظرك على أعصابها وقلبها وكبدها، تعانقها وتبوس على كفها ورأسها وتحتضنك وتقول الله ياولدي كان غادي تديك الحملة في الواد، الله ياخود الحق في هذا البلد، الله ياخوذ الحق في من يعبث به تقول أنت في نفسك منتشيا بوجه أمك الذي أصبح حقيقة أمام عينيك وقد وصلت إلى منتهاك.
يوسف بخوتة
عن الكاتب
مواضيع ذات صلة
اكتب تعليق
لابد من تسجيل الدخول لكتابة تعليق.