بمناسبة الذكرى 63..تاونات الشاهدة على انطلاق طريق الوحدة
أحمد المتوكل –تاونات:”تاونات نت”/من المروءة والفضل أن يعْرف الإنسان تاريخ بلده ومنطقته ووطنه ويُعَرِّف به، ويطَّلع على جهاد وإنجازات أجداده وأسلافه، وأن يسير على خطى الصالحين المصلحين ممن سبقه.
ومن العيب والعار أن يجهل الإنسان أو يتجاهل أو يتقاعس عن صنع تاريخ مستقبله ومستقبل منطقته ووطنه وأمته، وأقبح من ذلك كله أن يتنكر أو يطمس ويتجاهل ما صنع أجداده، والذي ما صنع مجدا أو ما ساهم فيها كأنه ما عاش أبدا، والذي أنجز ما تنتفع به الإنسانية كأنه عاش سنين عددا، ويُكتب له الأجر والثواب الكثير المتوالي ما بقيت منجزاته دهرا طويلا، وينال المدح والثناء العطر والذكر الحسن.
والناس في حاجة ماسة لمعرفة تاريخ بلدانهم ووقائعه وأحداثه، والاطلاع على سِيَّر رجالهم وأبطالهم ومعرفة أمجادهم ومنجزاتهم كي يساعدهم ذلك في حاضرهم ومستقبلهم، ويستلهموا منه الدروس والعبر ويسيروا على نهجه لصنع أمجادهم ومفاخرهم.
ومن الأحداث المهمة التي وقعت في منطقة تاونات بُعيد الحصول على “الاستقلال” حدث شق وتشييد طريق الوحدة، ذلك المشروع المهم الذي ربط بين جنوب المغرب وشماله مخترقا جبال اكتامة ووديانها وغاباتها بطول يبلغ 80 كيلومترا تقريبا، وهو بذلك أبرز حدث انطلق من أرض تاونات سنة 1957م.
وإلى حدود هذا التاريخ لم يكن يوجد أي طريق معبد عبر سلسلة جبال الريف يربط بين شمال المغرب ووسطه وجنوبه.
وإذا رجعنا إلى الوراء شيئا قليلا، وبالضبط قبل احتلال فرنسا وإسبانيا للمغرب، نجد أن دول أوربا حاصرت المغرب بالقروض وكبلته بالاتفاقيات والمعاهدات فاستفحلت الأزمة الاقتصادية وتدهورت أوضاع البلاد، وبدأت فرنسا وإسبانيا في خلق المضايقات وإيجاد الأسباب المؤدية إلى احتلاله والتدخل في شؤونه من أجل استرداد أموالهما بعد معركتي إيسلي وتطوان، وجاء مؤتمر الجزيرة الخضراء مكرسا المزيد من الاهتمام بثروات المغرب وبنظامه العام وأمنه، فحددوا بنود الإصلاح بالمزيد من الضغط على الملك عبد الحفيظ العلوي فكان الاتفاق بين فرنسا وإسبانيا على أن تحتل إسبانيا شمال المغرب وجنوبه، وفرنسا وسطه، فاحتُل المغرب تدريجيا وتوغل الاستعمار في المغرب شرقا وغربا وشمالا وجنوبا مما خلق عزلة بين شمال المغرب الذي كان بيد إسبانيا وبين الجنوب الذي كان تحت نفوذ فرنسا.
ورغم تقسيم المغرب بين الدولتين ظل المغاربة المتواجدون قرب الحدود الفاصلة بين شمال المغرب وجنوبه يجمعهم الهم المشترك المتمثل في مقاومة المحتل الغاصب الذي فرَّق بينهم وقطع أواصرهم وحاصرهم وحاربهم وسلب خيراتهم، وكان يوحدهم الهدف الأكبر المتمثل في إخراجه من بلادهم طمعا في الحرية والاستقلال ورفضا للحماية والاحتلال والإذلال والاستغلال، وكان يجمعهم التنسيق الحربي من أجل مقاتلة العدو المستعمر، وكان من المجاهدين من يجاهد على جبهتين: يقاتل الفرنسيين والإسبانيين فكان له مسكن بالمستعمرة الإسبانية وآخر داخل النفوذ الفرنسي.
وفي العصر الحالي وعلى بُعد بضع مآت من الأمتار من مدينة تاونات في اتجاه الحسيمة شُيد مكان بلوحة تؤرخ لحدث مهم وقع بهذه المنطقة، وبه نصبت كراسٍ حديدية وحوله غرست أزهار وأعشاب خضراء، ورصفت أرضه بالخَرْسانة المطبوعة(Biton imprimé)، اشتهر بهذا الاسم: ((گعْدَة الملِك)) يقصده الناس في المساء للتنزه والجلوس وتنسم الهواء وللترويح على أنفسهم من ضيق حيطان المنازل، إلا أن كثيرا ممن يجلسون بهذا المكان – ممن وُلدوا بعد الستينات- لا يعرفون لماذا يُطلق عليه هذا الاسم اليوم؟، وما السبب في ذلك؟.
فبعد سنة من خروج المستعمر من أرض المغرب – وبالضبط في سنة 1957م- بقيت العزلة بين المنطقين المذكورتين آنفا، ولأن المغرب كان بحاجة ماسة للبِنيات التحتية، ولأن الحكومة التي تشكّلت آنذاك (حكومة البكّاي الأولى) لم تكن قادرة على توفير كل المتطلبات، تفتّقت عقلية الشهيد المهدي بن بركة (الذي كان يرأس المجلس الاستشاري)، فاقترح بناء طريق تربط بين المنطقة الشمالية التي احتلّتها اسبانيا، والمنطقة الجنوبية التي احتلّتها فرنسا (بين تاونات وكتامة)، وذلك بشكل تطوعي ودون أي أجر يحصل عليه العمال…فلِشق هذه الطريق الوعرة التي تمرّ بين جبال يبلغ ارتفاع بعضها 2000م، وفي أماكن جبلية صعبة جدا، قدّرت إدارة الأشغال العمومية آنذاك أنها ستحتاج لمدة سنتين من العمل و800 مليون فرنك، وقد قرّرت اللجنة التي شكّلها المهدي بنبركة أن تنجز المهمة في ظرف 3 أشهر وبتكلفة لا تتعدى 184 مليون فرنك فقط.
وقبل البدء في العمل تحدث الملك الراحل محمد الخامس رحمه الله عن المشروع في خطاب ملكي من مراكش، حث فيه شباب المغرب للنهوض لإنجاز هذا المشروع، فأُعلن عن فتح باب التطوع، وكان المطلوب أن يصل العدد إلى 12 ألف شاب، لكن عدد المتطوعين بلغ أكثر من 33 ألف شاب، مما جعل اللجنة تلجأ إلى الانتقاء بناء على المستوى التعليمي (كان 80 في المائة من الشباب ينحدرون من البوادي والقرى)… ولهذه الغاية اخْتير 12 ألف شاب فقط وأخضعوا لتكوين عملي ونظري…ثم وُجهوا إلى ساحة العمل الذي نتجت عنه طريق الوحدة.
فنهض الشباب من الدواوير والقرى المجاورة للطريق، ومن مدن ومناطق أخرى مختلفة من الوطن كالرباط ووجدة وتطوان والدار البيضاء و… لإنجاز هذه المفخرة التي سيبقى نفعها مستمرا في التاريخ للمواطنين من جميع مناطق المغرب.
لقد اعتبر مشروع طريق الوحدة أهم مشروع وطني في حينه، فزار الملك الراحل محمد الخامس رفقة ولي عهده آنذاك الحسن الثاني- رحمهما الله وغفر لهما- المنطقة وأعطى الملك المرحوم محمد الخامس أمر انطلاقه يوم 15 يونيو 1957م من المكان الذي يعرف اليوم بـ ((گعْدَة الملِك))، وكان الحسن الثاني مشاركا ومؤطرا ومتابعا للشباب الذين عملوا في إنجاز هذه المفخرة.
ويذكر كثير ممن عايش الحدث وشارك فيه أن فكرة المشروع كان وراءها المهدي بن بركة، وهو أول مشروع تقدم به في بداية الاستقلال، واقترحه على الملك محمد الخامس رحمه الله، “وأنه هو من جمع الناس للقيام بذلك قبل أن يؤشر محمد الخامس على القرار” 1، وكان بنبركة مشرفا رئيسيا على هذا الورش، حيث كان مقتنعا تمام الاقتناع ” أن التنمية تقوم على أساس الأوراش الكبرى للطرق والسكك الحديدية، لذلك وضع فكرة بناء طريق الوحدة لفك الحصار عن الشمال، وخاصة منطقة الريف والحسيمة، لأنها كانت منطقة محاصرة ومهمشة، بفعل ما عرفته المنطقة من حروب مع إسبانيا، وكانت منطقة الحسيمة تعيش على وقع التهميش والتخلف الاقتصادي وضعف البنيات التحتية، لذلك اقترح المهدي فك العزلة عن هذه المنطقة، لكن تبين في ما بعد أن المشروع كانت وراءه أهداف أخرى”.2.
يقول المقاوم الحسين برادة” لم يكن مقصد بنبركة بتاتا أن يفك العزلة عن المناطق، بل كان يريد أن يَبْرُز بمظهر البطل أولا، ثم إنه كان يحمل أفكارا اشتراكية ويسعى إلى إشاعتها بين الناس، حيث إنه حاول استقطاب كل الذين جاؤوا للمساهمة في شق الطرق وإقناعهم بالمشروع الاشتراكي الذي كان يحمله في تلك اللحظة“.
كان بنبركة “يخفي مقصده الحقيقي، واستغل كونه المسؤول الأول عن المشروع، ومن ثم راح ينشر تصوراته الاشتراكية التي قد خلقت مشكلة حقيقية وقتذاك داخل حزب الاستقلال” هنا وصل الخبر إلى ولي العهد الحسن الثاني فأدرك “أن ما يقوم به بنبركة ليس هو بناء طريق الوحدة بل بناء طريق اشتراكية تمهد لحزب اشتراكي، وهو الأمر الذي حصل فيما بعد”،” فرأى في دعوة بنبركة تهديدا صريحا لعرش والده”، حينذاك “شعر بامتعاض كبير وتملكه غضب عارم “، “وكان أول اصطدام حقيقي بين الحسن الثاني والمهدي بنبركة في مغرب ما بعد الاستقلال”3.
يقول الباحثان الفرنسيان سيمون وجان لاكتور، في كتباهما “المغرب تحت الاختبار” عن هذا الإنجاز: “ليس طريق الوحدة ورشة عمل وحسب (…) بل إن تفكير المهدي بن بركة كان يهدف إلى تجميع واسع للشباب حول موضوع وطني وحركي في الوقت نفسه.
لقد كان الهدف هو إثارة اهتمام شبيبة لا مُبالية نسبيا، وحملها من خلال بذل الجهد على الاقتناع بأن العمل وحده يعطي مردودية، وأيضا جعلها تكتشف بصورة جماعية بعض حقائق الواقع الحديث، وانتِزاعها من عالم القرية المحدود وبالتالي فتح أعين الشباب المراهق -الذين لا يرون أية آفاق غير تلك التي يُقدّمها لهم الدوار والقبيلة – على وجود وطن اسمه المغرب، من خصائصه التعدّد والتنوّع ويجتاز ظروفا صعبة.
يتعلق الأمر إذن، بمجال لاكتساب التجربة، وبـ “مُنبه الصباح” للشبيبة المغربية يمكن أن يتشخّص أيضا في مشروعات أخرى من قبيل بناء سد أو القيام بعملية الحصاد أو بناء قرية شعبية أو مدرسة: إنه طريق”4.
وبغض النظر عمن كان صاحب الفكرة وعن الهدف من إنجاز هذا الطريق، يبقى إنجاز مشروع طريق الوحدة حدثا وطنيا مهما جدا ربط بين شمال المغرب وجنوبه ووحّد بينهما، وفكَّ العزلة بين السكان رغم محاولات المستعمر السابقة والمتكررة لخلق أسباب الاختلاف والقطيعة والتنازع والفُرقة بين سكان البلد الواحد، والمشروع قرَّب الشُّقة وأزل المشقة وجمع بين المنطقتين، حتى أصبحتا منطقة واحدة موحدة أرضا وشعبا وهدفا، وكان له أثر محسوس في تحسين وتمتين الروابط والعلاقات الاجتماعية والأسرية والاقتصادية وغيرها.
لقد عاشت أرض تاونات – مركز انطلاق- هذا الحدث التاريخي وعايشه أبناؤها وشارك عدد كبير منهم في إنجازه، وبنوْه بسواعدهم وسال على ترابه عرقهم بهمة ونشاط وفرح …
والمنطقة التي شُيدت عليها هذه الطريق تقع في مقدمة جبال الريف، يغلب عليها طابع جبلي، ذات التلال والجبال الوعرة، والأحجار الصلبة، والمنعرجات الصعبة، والأشجار الكثيفة.
وهذا الحدث – مشروع إنجاز طريق الوحدة-لا يعرف تاريخه ومَن أنجزه وكيف أُنجِز إلا الذين شاركوا فيه أو عايشوا حدثه أو عاصروا مَن قاموا بإنجازه، أو حُكي لهم عنه، أو قلة من الباحثين والمؤرخين، أما الأجيال التي وُلِدت بعده فكثير منهم لا يَعرِف عنه شيئا.
ومن الضروري اليوم – وبعد مرور عقود عديدة على تاريخ إنجاز هذا الطريق- أن يعرف المغاربة عامة وأبناء المنطقة خاصة هذا الحدث الوطني المهم الذي يمتد نفعه عبر الزمان، وأن يحيطوا عِلما بأسباب بنائه والأهداف التي بني من أجلها، والإمكانيات التي رصدت للمشروع، والرجال الذين تطوعوا لإنجازه، في وقت لم تكن فيه الجرافات وآلات الحفر المتطورة، وإنما كانت آليات بسيطة جدا وقليلة، وشجاعة ونهوض للمكارم، وهمم عالية، وفؤوس ومعاول بدائية تحركها سواعد وعضلات قوية كثيرة متطوعة، وتعاون ونكران للذات وتطلع لبناء المغرب الذي أنهكه المحتل، وفرّق بين أبنائه وقسَّم وطنهم، واستنزف خيراتهم.
إن في حدث بناء طريق الوحدة عبرا ودروسا كثيرة، تكون لنا ولأجيالنا ولمنْ بعدَنا نبراسا يفيدنا في سلوكنا، ومعاملاتنا، وفي تنمية بلادنا، وازدهار عيش أبناء وطننا، أمنا وأمانا ورفاهية وخدمة وتحقيقا للصالح العام، وهو منفعة عامة هامة تستفيد من منافعه الكثيرة الأجيال المتعاقبة عبر الأزمان.
فينبغي لجيل اليوم والأجيال القادمة أن يكونوا على بصيرة بهذا الحدث المهم، ويطَّلعوا على جزء مهم من تاريخ المنطقة، ويكونوا على دراية بمن صنعوا أمجاد ومفاخر ومآثر وطنهم، ويقوموا بدراسة وتدريس الأحداث التاريخية التي عاشتها المنطقة وإيصالها للأجيال التي تأتي بعدهم حتى لا تنطمس كثير من المعلومات التي تفيد مَن سيأتي بعدُ في معرفة تاريخ بلاده وإنجازات أجداده.
وإن واجب التعريف بمنطقة تاونات وتأريخ أحداثها يقع – اليوم- على الكُتاب والمؤرخين قبل مرور السنين ونسيان الأحداث ووفاة أصحابها واندراس من عاشها وصنعها، والنهوض لجمع الوثائق والجرائد والخرائط والمصادر التاريخية التي تكلمت عن الحدث وقت إنجازه أو أرخت له بعد إكماله، وتوثيق المعلومات توثيقا دقيقا وجمع شهادات لبعض الذين شاركوا في صنع الحدث.
وفي الأخير، إن منطقة تاونات لازالت محتاجة إلى كُتَّاب ومؤرخين وباحثين مخلصين لهم غيرة واهتمام بمنطقتهم وبوطنهم، يميطون اللثام عن كثير من الحقائق والأحداث ويُعَرِّفون بها وبرجالها وبمنجزاتهم في مختلف الميادين.
الهوامش:
1. الحسين برادة ، جريدة المساء عدد: 3076 ص 24 ، كرسي الاعتراف الحلقة 47.
2. انظر حوار محمد خليدي مع جريدة الأخبار عدد 320 في الصفحة الأخيرة بتاريخ 29- 11- 2013.
3. هذه النقول من جريدة المساء عدد: 3076 ص 24.
4. هذه الشهادة منقولة من كتاب “في غمار السياسة” (1. 136) لمحمد عابد الجابري.