لمحة مقتضبة عن تاريخ مدينة تاونات بقلم المؤرخ الدكتور العربي اكنينح
د.العربي اكنينح*-فاس:”تاونات نت”/– يطلب مني كثير من زملائي، قدماء تلاميذ ثانوية الوحدة بتاونات، بصفتي كمؤرخ، أن أكتب شيئا عن تاريخ هذه المدينة .
وهذا العمل يتطلب الكثير من الجهد، بسبب نذرة الوثائق الوطنية، لأن هذه الجهة كانت تندرج، في كثير من الأحيان، قبل الفترة الإستعمارية، ضمن قبائل السيبة ، ليس بمفهومها القدحي، أي سيادة الفوضى وقانون الغاب، بل تشير” السيبة ” هنا فقط ، إلى خروج هذه المنطقة عن نفوذ السلطة المركزية حين ضعفها .
وهذا يعني أن المراسلات بين قواد قبائلها والسلطة المركزية كانت شبه متوقفة.
والوثائق والمستندات الأجنبية التي تم تحريرها في الفترة الإستعمارية ( 1912 – 1956 ) ، ولا شك أنها كثيرة ، لم يكشف عنها بعد ، ولازالت حبيسة المستودعات الوثائقية الفرنسية والإسبانية وغيرها من الدول. ولذلك يصعب، في الوقت الراهن، تقديم دراسة علمية مستفيضة تشفي غليل أبناء المنتمين إلى هذه المنطقة ، والمتعطشين، ولاشك، إلى معرفة تاريخ بلادهم ،والوقوف بالتالي على أمجاد رجالاتها وإخفاقاتهم.
وبالرغم من ذلك، فقد سبق لنا أن كتبنا دراسة تحت عنوان ” جوانب من تاريخ صنهاجة عين مديونة” لم تنشر بعد، وإن كان بعض الزملاء قد اطلعوا عليها ، وسنعمل على تعميمها في القادم من الأيام، ثم أنجزنا بحثا مهما عن الشهيد محمد القري تحت عنوان : “الأستاذ محمد القري : شهيد الحركة الوطنية” وهو منشور في كتابنا ” دراسات في تاريخ المغرب،( ص،189- 197) .
وهناك مواضيع أخرى سترى النور في المستقبل. وفي انتظار ذلك نقدم هنا ، في البداية، لمحة مقتضبة فقط عن تاونات المدينة ، وهي ورقة أدلينا بها للإذاعة الوطنية إبان الزيارة الملكية لهذا الإقليم ، في 14 نونبر 2010 .
لانتوفر لحد الآن ، مع الأسف، على دراسات تاريخية منوغرافية ، تغطي بالدراسة والتحليل، جميع قرى ومدن المغرب ، وهذا دور الجامعة الآن، خصوصا بعد دخولنا في مرحلة الجهوية المتقدمة.
وفي هذا الصدد، لم تصلنا عن تاونات وقبائلها ، سوى إشارات قليلة ومتفرقة وردت في بعض المصادر التاريخية، لاتسمح بأخذ صورة واضحة عن تطور هذه الجهة من الناحية الإقتصادية، والإجتماعية ، والسياسية، عبر مختلف حقب تاريخها.
ومع ذلك ،يمكن تقديم هنا لمحة تاريخية ، ولومقتضبة ، عن ما أصبح يسمى اليوم بمدينة تاونات .
كانت مدينة تاونات الحالية، في البداية ، تتكون من مجموعة من المداشرالمتماسكة فيما بينها ( تاونات، أسطار، احجار مطاحين، احجدريان، القلعة ، الدمنة واخمالشة… ).
ولفظة تاونات ، كانت تطلق في الأصل على مدشر صغير يقع في أحد أعلى قممها. وهناك من ذهب إلى أن كلمة تاونات كانت تعني بالأمازيغية مفترق الطرق. وهناك من قال إنها تعني العقبة. لكن من المرجح أن تاونات هو تحريف لكلمة تنولت بالأمازيغية، ومعناها مجموعة من البيوت الصغيرة المبنية بالقصب أو القصدير “النواول”، أو البراريك بالمفهوم المعاصر.
وأشهر القبائل المحيطة بتاونات، هي مزيات، ورغيوة، والجاية.
ونتوفر على إشارات تاريخية تفيد أن أصول هذه القبائل ترجع إلى القبيلة الأم، أوربة التي بايعت المولى إدريس الأول ، مؤسس الدولة الإدريسية، في وليلي سنة 172 ه. ومن المعلوم أن أوربة شيعة، الأدارسة ، قد انتقلوا إلى فاس ونواحيها للسكنى إلى جانب أميرهم ، و بنوا حومة خاصة بهم لازالت تعرف إلى اليوم بحومة الوربية في عدوة الأندلس المقابلة لعدوة القرويين. إلا أنه بعد سقوط الدولة الإدريسية، وإجهاز موسى ابن أبي العافية على آخر أمراء بني إدريس في القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي ، فرت هذه القبائل إلى مرتفعات تاونات وتحصنت بها. وفي هذه الفترة أيضا ،حل محمد بن إدريس بن إدريس بصنهاجة الظل التي تعرف الآن بأولاد آزم واستقر بها، فارا بنفسه من بطش زناتة.
ومن خلال المعلومات التي نتوفر عليها، يتضح أن مدينة تاونات لم تبدأ تتبلور معالمها، بصورة جلية ،إلا في العشرينيات من القرن الماضي. فعندما مر الحسن الوزان باقليم تاونات ، في القرن السادس عشر، تحدث عن جبل بني وليد، وجبل مرنيسة، وجبل لوكاي، أو الكيل، كما يسمى اليوم، وأيشتوم، ولم يذكر تاونات . وهذا يعني أنها لم تكن تشكل تجمعا سكانيا كبيرا في ذلك الوقت . ولم تبدأ تاونات في الظهور إلى الوجود، كنواة حاضرة ، إلا في العشرينيات من القرن الماضي. ففي هذا التاريخ ، نزلت فرنسا في مرتفعات تاونات، وعين مديونة ،وغفساي ،ومنطقة البيبان، وتازة ووزان ، وبنت هناك ثكنات عسكرية لمواجهة محمد بن عبد الكريم الخطابي، زعيم حرب الريف ( 1921 – 1926 ). ومنذ ذلك الحين، بدأت الحركة التجارية في الإنتعاش في تاونات ،وكثر بها العمران تدريجيا، لإيواء الجنود الفرنسيين وعائلاتهم .
فلا زالت هناك بلدة تسمى الشنابر ، وهو تحريف لكلمة ( les chambres) بالفرنسية، أي الغرف التي كان يقيم فيها الجنود.
وفي بداية الخمسينيات ، تم تأسيس أول مدرسة ابتدائية هناك، وتحولت منطقة الشنابر التي كانت مخصصة للعسكر، إلى أقسام دراسية.
وفي 1957، تم بناء أيضا إعدادية تخرج منها عدد كبير من الأطر التي احتلت ، فيما بعد، مراكز هامة في دوالب الدولة، من عمال ، وولاة، وأطباء، وأساتذة جامعيين، وصيادلة وصحافيين، وغيرهم…
على أن أهم حدث ساهم في انعاش تاونات وازدهارها ،هو بناء طريق الوحدة. ففي صيف سنة 1957، أراد المغفور له الملك محمد الخامس ورجالات الحركة الوطنية إنهاض الهمم ولم الشمل، لبناء طريق تربط بين تاونات التي كانت تدخل في نطاق الحماية الفرنسية ، وبلدة كتامة التي كانت تحسب على الحماية الإسبانية، طولها 60 كلم.
وقد وجه نداء الملك المرحوم ، في هذا الصدد، لكافة شباب المغرب إذاك، للأنخراط في هذا الورش الوطني الكبير، حيث استجاب له 50000 نفرا اختير منهم 11000 شابا من مختلف مناطق المغرب، من أكادير وورزازات، والراشيدية، ووجدة، وفاس وغيرها . وساهم فيه المسلم، واليهودي، والعربي، والأمازيغي، جنبا إلى جنب. ويمكن اعتبار هذا الحدث الهام، مسيرة أولى في اتجاه توحيد المغرب المستقل وبناء صرحه قبل المسيرة الخضراء لسنة 1975 التي سبقها أيضا استرجاع طرفاية في 1958، وسيدي إفني في سنة 1969 .
وقد وزع المتطوعون لخدمة هذا الورش الهام، على 16 مخيم على طول الطريق الرملية الرابطة بين تاونات وكتامة، واستغرق العمل فيه ما يزيد على سنة.
وفد استهدفت الدولة من هذا المشروع ، فك العزلة عن المنطقة ،و ربط الشمال بالجنوب، وتنمية ميناء الحسيمة على البحر المتوسط ،إلى جانب الدار البيضاء على المحيط الأطلسي.
ومنذ ذلك التاريخ ، تطورت تاونات من قرية صغيرة وارتقت إلى حاضرة متوسطة يبلغ عدد سكانها الآن إلى اكثر من 40 الف نسمة . وعندما أصبحت عمالة في سنة1977 ، ازداد نموها العمراني والبشري، وأصبحت في حاجة ماسة إلى جامعة تسد حاجياتها من الأطر اللازمة لتنميتها في جميع المجالات، وإلى طريق سيار أو طريق مثنية تربط مدينتي الحسيمة بفاس، مرورا بمدينة تاونات لتكتمل نهضتها العمرانية، في إطار الجهوية الموسعة التي دخلت الآن حيز التنفيذ.
*الدكتور العربي اكنينح:أستاذ جامعي -مؤرخ من مواليد جماعة عين مديونة بإقليم تاونات /فاس.