فضاءَاتُ “أيْلَة” التي انبثقت منها ملامح شخصيات كثيرة من جيل قريتنا الصغيرة بتاونات
إدريس الواغيش –عن موقع “هسبريس”:”تاونات نت”//- في البَدْءِ كان جمال الطبيعة وخلق الله، ثم جمال الفضاء في بيت الأسرة، والجلوس حول البرّاد والصّينية بالقرب من ساقية العرصة، وظلال الصّلصال فوق الألواح المُعلقة على حيطان “المْسِيد” في الجامع، والنظر إلى أبعد مدى مُمكنٍ من “كديات” تاونات في جبال الريف، ثم رسم خرائط شبكة الطرقات في مرنيسة على مقاسات أقدامنا الحافيات، قبل أن يظهر أمامنا بياض حيطان مدرسة ابتدائية في سيدي عبد الرّحمن، وبعدها ظهر شيء مختلف في حياتنا، تجلى في قبح أعمال بعض الناس في الدّوّار والقبيلة، واعوجاج في سلوكياتهم اليومية.
لم نكن نعرف ما معنى الغد، ولا نخطط له، كنا نكتفي بما نعيشه في حاضر يومنا، لا ما يخبّئه لنا غدنا، وإن كنا نؤمن باليوم الآخر والقدر خيره وشرّه.
في فضاءات “أيلة” انبثقت ملامح شخصيات كثيرة من جيل قريتنا الصغيرة، وفيها بدأت مرحلة التأسيس للغد، ولما بعدَ الغد، قبل أن تتمدّد سلالة قريتنا من الجيلين الثالث والرابع، وتنتشر بمختلف اللغات في أنحاء كثيرة من شرق الأرض وغربها. لم نكن نحني رؤوسنا بحثا عن بياض الرّيال والدّرهم، كنا نحرص على أن تظل هذه الرّؤوس دائما مرفوعة في كبرياء البادية للاستمتاع بزُرقة السماء، واستنشاق الهواء أو رُؤية سحب الخريف، وهي تمرّ في انتظام تباعا قادمة من جهة الغرب، لكي تمرّ مُغمضة العينين إلى حتفها النهائي في جهة الشرق، تتلوها قطرات فصل الشتاء وزخات المطر الرّبيعي، كي تستفيق سنابل القمح من سباتها، وتنتصبُ في مزارع ربيعنا.
قريتي تعرفني كما أعرفها، أعزّها بكل قبحها وجمالها، بإنصافها وجورها، فيها كنت أبدأ روتيني اليومي في الصباح بشرب نصف غلاية من الشاي، وأكتفي بخُبز الشعير والزيت والزيتون، قبل أن أختفي كالسّراب بين غابات البطم والزيتون والخروب والتين، بحثا عن أعشاش الطيور وبيضها وفراخها. كنت مُدمِّرًا صغيرًا، وحشٌ آدميٌّ لا تُغتفر جرائمه، ألم أقل لكم أنه واجب عليّ اليوم أن أحجّ إلى بيت الله الحرام وأطيل في الصلوات الخمس، عسى أن يغفر الله لي ما تقدّم وما تأخّر من تلك الذنوب والآثام والمعاصي.
كنت أرى جمال قريتي بكل الألوان، بُنّية في الخريف، رمادية في الشتاء، خضراء في الربيع ثم صفراء في الصيف. أربعة ألوان مختلفة تتناوب على عيوننا في كل سنة، كنا نستمتع بجمالها وروعتها، بدءا بعملية الحرث وانتهاء بالحصاد وعملية الدّرس. كل فصل من هذه الفصول الأربعة تتبعه قصص حُبٍّ وحكايات غرام، تنتهي في الغالب بقصص حُبّ فاشلة أو أعراس في الصيف، إن نجحت ووصلت إلى آخر أطوارها، وللأعراس الصيف في قريتي طعم آخر، يختلف عن باقي طقوس أرض الله الواسعة.
في “أيلة” قليل مني، معجون بأجزاء تتكاثر فيّ بفاس. وفي تلك القرية الصغيرة المعلقة في مقدمة جبال الريف تمتزج الأرواح بالأتربة، الأموات بالأحياء، الوقائع الحقيقية بالحكايات والأساطير، الحاضر بالماضي، قبل أن يصبح مُجرّد حنين ونوستالجيا.
ولأنني مشيت حافي القدمين في طين مسالكها الضيقة، وقفزت بكل حذر، وأنا صغير كالجدي في غدران ورغة وعلى “كدياتها” المسنّنة في الصباحات الباكرة، كما في المساءات المتأخرة من أعراس الصيف، حتى هدّت ركبتيّ صعودا ونزولا، تمكنت من معرفة خبايا الأمكنة وأسرارها جيّدا. كنت أعرف لغات قريتي وصمتها، وعدد التواءات الطرقات والمنعرجات فيها، كما كان يعرف سيدنا سليمان منطق الطير ولغة الحيوانات. وقريتي “أيلة” أيضا كانت تعرفني، كما كنت أنا أعرفها. أخاطبها بحميمية مفردات قاموسها الفوضوي، وأكاد أجزم أنها كانت تسمعني.
عشت فيها امتلاء خارقا بالسعادة والشقاء، كنت أترجّل حافيَ القدمين لأقطف ما أحبه من الفاكهة المشتهاة، وأتعمّد شمّ رائحة القمح أواخر فصل الرّبيع والتراب الطازج مِلءَ الرّئتين، عندما تهبُّ علينا تباشير هطول المطر الخريفي. وحين أدقق اليوم نظراتي في براري “أيلة” ومسالكها الوعرة، أستحضر شقاوة طفولتي والمراهقة، أشعر برغبتها الكبيرة في مخاطبتي. حفظت أسماءها في كل الأمكنة، وما فوقها عن ظهر قلب: أشجار التين والكروم، ألوان الطين والحجر، تسلقت كثيرا أشجار الصفصاف والبطم والخروب فيها كسنجاب طائش، وصعدت أعالي الجبال ومنحدراتها الحادة بحرفية الماعز الجبيلي المتهوّر، ولم تسلم مني أشجار الزيتون والبلوط والدّفلى، تفنّنت في امتصاص العنب الحلو والحامض من أثداء الدالية طريًّا، حفظت أسماء الفقهاء المتعاقبين على مسجدها الطيني، وعدّدت خطوات العابرين والمغرمين في الطرقات والأمكنة: قبر الماء، المحيز، عين حمزة، السوياق، الطلاقة البيضا، أونة، الصّفّاح، مرج كايزة… إلخ.