من “رهاب متعدد” إلى “وادي اللبن”..(إبن تاونات) عبد اللطيف محفوظ:الرواية تشخّص الواقع بعمق فكري
أشرف الحساني –عن موقع “الجزيرة نت”: “تاونات نت”//- الناقد المغربي (أستاذ جامعي ينحدر من إقليم تاونات) الدكتور عبد اللطيف محفوظ: يصعب الحسم في العامل الأساس الذي يجعل الرواية جنسا أدبيا أكثر أهمية الآن، هل قدرتها على تشخيص الحياة بأبعادها المختلفة، أم المتعة الفكرية والجمالية التي توفرها للقراء، أم سهولة كتابتها لأنها تقبل كل اللغات وكل الموضوعات.
بين القصة والرواية والنقد، يرصد المغربي عبد اللطيف محفوظ سيرة معرفية لصورته ككاتب يمزج فيها العقل بالوجدان. ورغم أن الكتابة الأدبية بدأها متأخرا، فإنها غدت تقدمه بصورة المبدع المنشغل بالصناعة الإبداعية بدل الإقامة في تخوم منطلقاتها المعرفية والتاريخية والجمالية.
وهو تحول، بقدر ما يُثير شكوكا لدى القارئ المغاربي عن سر انتقال محفوظ ككاتب، يحمل مشروعا نقديا في مجال تحليل الخطاب صوب كتابة القصة والرواية، إلا أنه من جهة أخرى يؤكد مدى ملامح الخصوصيات المعرفية والتعدد الثقافي الذي يعيشه في ذاته، بين تفكير مجرد ينقب في النظريات الأدبية وتمثلاتها في المتخيل الروائي العربي وآخر تخييلي يستند إلى أجناس أدبية كالقصة والرواية لتفجير مكنوناته الوجدانية.
كما هو الأمر في كتابه القصصي “رهاب متعدد” (دار الفاصلة، عام 2019) الذي عاد فيه المؤلف إلى طفولته بكل أحلامها وانكساراتها، كاشفا الستار عن مراحل هامة من حياته. لا بوصفها مرحلة عمرية يعيشها المرء في سيرته الوجودية، وإنما بحكم غزارة عيشها وزخمها بأفراحها وأحزانها وتفاصيلها ونتوءاتها لدرجة التأثير في متخيله حاضره الآن ككاتب.
بمناسبة صدور روايته الجديدة “وادي اللبن” عام 2021، كان للجزيرة نت هذه الوقفة معه حول منجزه النقدي والإبداعي:
من البحث إلى الإبداع
- ما السر وراء انتقالك من الكتابة النقدية إلى عوالم الكتابة القصصية والروائية؟
أعترف في البداية أنني لم أكن في يوم من الأيام ناقدا بالمعنى الدقيق للكلمة، لأن من مهام الناقد الأدبي مواكبة الإبداع، ومتابعة تحولاته والعمل الدؤوب على رصد إنتاجاته. وهو الأمر الذي لم يكن في يوم من الأيام همي ولا كلفي. وكما أؤكد دائما: لا أعد نفسي ناقدا بل إنني باحث في مجال تحليل الخطاب، والدليل على ذلك أنني لم ألعب قط دور الوسيط بين مبدع وقارئ، أو دور رقيب على اختيارات الكتاب الجمالية والأيديولوجية.
لم يكن همي، إذن، يتجاوز الاطلاع على النظريات الأدبية وخلفياتها الفلسفية، وشكل تحولها إلى مناهج ذات آليات اصطلاحية ومفاهيمية تشكل وسائلها المادية لمقاربة النصوص والظواهر. ومن خلال هذا الصنيع كنت أهدف إلى المساهمة في ضبطها وتمثلها ونقدها في أفق تقريبها إلى غيري من قراء العربية.
وما زلت لحد الآن أمارس نفس المهام، لذلك لم أنتقل من الكتابة النقدية إلى الكتابة الإبداعية، وإنما انفتحت على الكتابة الإبداعية موازاة مع الانشغال العادي بالبحث الذي تفرضه مهنتي، وقد وجدت في نفسي استعدادا لا بأس به للكتابة السردية، وصرت أزاوج بين إنتاج الدراسات الأدبية وكتابة نصوص سردية.
النقد لا يموت
- هل يتعلق الأمر بموت النقد الأدبي، كما تروج له بعض التجارب الأدبية في المغرب؟
لا أعتقد أن النقد سيموت أو يخفت، وإنما سيصير محدودا، يرتبط إما بأسماء معينة كتلك التي تتمتع بحضور إعلامي كرسته منابر ورقية أو سمعية بصرية، أو تلك التي فازت بجوائز. وذلك لأن عدد الكتب التي تصدر في مختلف الأجناس تتجاوز بكثير طاقة الفرد. ويعود ذلك إلى أن مجمل الإنتاج الأدبي الذي تراكم خلال عقود، ويتراكم كل يوم، يجعل أمر متابعته مستحيلا، إذ ليس بإمكان أي كان دراسته ونقده، بل ليس بمكنته حتى قراءته.
وأعتقد أن من يتهمون النقد الأدبي بالقصور هم، في حقيقة الأمر، غير راضين على المتابعة الانتقائية التي تهم نصوص أسماء بعينها.
وعلى كون أغلب أشكال النقد هذه ليست في حقيقتها إلا كتابات ترويجية تُجًمّلُ النصوص ولا ينتقدها، لأنها تعمد، في الغالب، إلى تقديم اختزال للمضامين ليس انطلاقا من قراءتها ووعي خلفياتها، بل إنها تنطلق من افتراضات المعاني التي تتخايل للناقد مساوقة لتلك العناوين. لذلك تبدو بعض القراءات/التلخيصات غير مشخصة للمضمون، بل مقترحة له.
الشيء الذي يجعلها خطابا إخباريا يفتقد إستراتيجية موضوعية للعمل، سواء أتعلق الأمر بتقديم التجارب الإبداعية أم بكيفية تقديمها.
بالنسبة لي لم يمت النقد بعد، وإنما صار ينتقي النصوص بناء على حضور الأسماء إعلاميا. وقد يبدو صنيعه هذا، بالنسبة للبعض، أسوأ من الموت نفسه.
رهاب متعدد
- في كتابك “رهاب متعدد” عدت إلى مسارب الطفولة ومتخيلها. ما الذي تعنيه لك كمبدع هذه المرحلة بالذات؟ وما الذي تُحققه لك على مستوى التخييل؟
كما قلت سابقا كانت الكتابة عن الذات مصادفة، لأنها كانت استجابة لمقترح، ولكنها كانت، مع ذلك، مغامرة لتجريب القدرة على الإبداع. بيد أن المغامرة صارت لعبة تضم كل شروط المتع التي ترافق اللعب من مراوغة ومداهنة وحذر ودهاء.
وقد كان من أهم دوافعي للاستمرار في الكتابة عن طفولتي، أنها، من جهة، زامنت المرحلة الحاسمة في صراع أجهزة الدولة مع القوى المعارضة، ومن جهة ثانية حاقبت الصراع المتعدد بين “التقليدانية” وبوادر التحديث في كل مظاهر الحياة من اللباس والموسيقى إلى أشكال العلاقة بين الجنسين.
لقد كان الصراع محتدما بين إبستيمي (معرفي) أصاب مكوناته خلل وآخر يحاول أن يهيمن… لذلك بدت لي (الطفولة) مرحلة زمنية تصلح لأن تكون استعارة مكانية لاحتراب عنيف بين أطراف متناقضة، وقيم متناقضة، وتصورات متناقضة أيضا. كما بدا لي أنها، بفعل خصوصية الزمن الاجتماعي الذي تحققت فيه، معين لا ينضب من إمكانات التخييل والتخييل المضاعف.
نص قصصي أم سيرة ذاتية؟
- على مستوى التجنيس يصعب الجزم إنْ كان الكتاب مجموعة قصصية أم سيرة ذاتية، بحيث إن لكل جنس خصائصه وكتابته وشرطه الوجودي. لماذا سميتها سيرة طفولة مع أنها تُضمر الكثير من خصائص ومعالم الكتابة القصصية؟
فعلا، انتبه جميع النقاد والباحثين الذين درسوا هذه السيرة إلى التباس يهم تجنيس حكاياتها، حيث لاحظوا تجاور تحديدين: “قصص” في أعلى الغلاف و”سيرة طفولة” في الأسفل؛ بل منهم من عَدَّهَا رواية سيرية قصيرة. وهم، حسب تصوري، محقون في تساؤلاتهم، لأن التجنيس المزدوج يدل على حيرة الكاتب وعدم قدرته على اتخاذ قرار.
لكن لم يتجاوز أي أحد منهم مستوى التساؤل إلى التأمل في الخلفية، أو إلى اقتراح تأويل ممكن، حيث لا أحد لحد الآن انتبه إلى أنه لأول مرة -حسب علمي- تقدم سيرة في شكل قصص قصيرة، تستقل كل واحدة عن مجاوراتها، مع أنها تضاهيها في التركيب السردي وفي النهاية التي تحدد رهابا ما، أو عبرة ما مستنبطة من البنية المضمونية للقصة، وما لهذا الصنيع من أثر على الجنسين، نظرا لكونه قد يفتح -إذا لم يكن قد فتح فعلا- أفقا جديدا للقصة التي بإمكانها أن تمتاح من التجربة الشخصية لكاتبها، وأفقا جديدا للسيرة الذاتية، يحولها من كونها ممتدة تحاكي الرواية والملحة، إلى معقولة تلتقط اللحظات المهمة في الحياة التي تعبر عن الأنا المعقول.
خاصية التجريب
- هل تعتقد أن السبب كامن في كون الكتابة المعاصرة ذات طبيعة مركبة ومفتوحة على التجريب؟
صحيح أن الأجناس قد تتداخل فتكون وسيلة لتطوير الشكل أو سببا له، لكن ذلك لا يكون موفقا إلا في الحدود التي تجعل التداخل يغني الجنس المهيمن، ويفيد نصوصه بفضل تفاعل معقلن، ومدروس. وهذا بالضبط ما حاولت تحقيقه بين السيرة التي ألفنا أن تكون “كرونولوجية” وذات شكل روائي يعبر عن الأنا الممتد للذات، ولجزء من الأنا الممتد للكلية الاجتماعية، ولم نجرب كثيرا إنتاجها وفق شكل القصة القصيرة.
ولعل هذا التوليف هو ما جعل سيرة طفولتي “رهاب متعدد” تحظى باستقبال جيد، وتدرس من قبل مجموعة كبيرة من الباحثين الجادين من المغرب ومن خارجه.
خصوصية الكتابة الإبداعية
- يتميز الكتاب بسلاسة السرد المندفع وجماليات المحكي المستند إلى الجهر بحقائق وذكريات وصور وعيش داخل الاجتماع المغربي. كيف جاء التفكير في السيرة كجنس أدبي/تاريخي وملاذا للكتابة الإبداعية لديك؟
لقد بينت في إحابة سابقة كيف انتبهت إلى متعة الكتابة السردية، وإلى غنى تجربة الحياة الخاصة، وأضيف الآن إجابة عن سؤالك أنني، من جهة، وأنا أعيد التأمل في أحداث عشتها أو عاشها من اشتركت معهم الأمكنة، اكتشفت أن مجموعة من تلك الأحداث تخفي في ظهورها البسيط حقائق اجتماعية وسياسية مضمرة.
كما تكشف تلك “التمظهرات” تصورات متشاركة أو متناقضة تتدافع في خفاء.. ومن جهة ثانية، اكتشفت، من خلال تفاعل من قرؤوا أول حكاية نشرتها، أن القراء يقبلون أكثر على الكتابة عن الذات، ربما لأن الأغلبية تعتقد أن السيرة تجعلنا نتجاوز حاجز التخييل الذي يكون قناعا في القصة والرواية، ويجعل البحث عن المعنى عصيا.
بناء على هذا النزوع، فضلت أن أعبر عن موقفي من الحياة الاجتماعية والقوانين الخفية التي تحكمها انطلاقا من سيرتي وسيرة المقربين مني، مؤمنا بأن ذلك سيجعل الإقبال عليها أكبر بكثير من الرواية أو القصة القصيرة.
وفعلا، وفي ظرف قياسي، علمت أن الدار تستعد لإصدار طبعة ثالثة.
من القصة إلى الرواية
- قبل أيام صدرت روايتك الأولى في المغرب بعنوان “وادي اللبن”(الفاصلة، عام 2021) وقد أثارت انتباه العديد من القراء داخل المغرب وخارجه. لا بسبب عوالمها، ولكن لحرصك على مراكمة منجز إبداعي إلى جانب مشروعك في النقد الأدبي. كيف تستطيع أن تعيش هذا الزخم المعرفي في جسدك وما مدى انعكاسه على فعل الكتابة؟
أعترف لأول مرة أنني حاولت تجريب كتابة الرواية منذ 20 سنة، لكن النص لم يرق لي إطلاقا، فتخليت عنه ونسيته، وبعد 10 سنوات كتبت رواية ثانية كان موضوعها حول الهامش، وقد استوحيت موضوعها من حياة واقعية لصديق انتقل مثلي من فاس إلى البيضاء، وفرض عليه، في موقف معين، أن يرتكب جريمة قتل دفاعا عن النفس.
لكن تخليت عنها نظرا لعدم قدرتي على تشخيص شكل حياته خلال سنوات السجن، وقبل 9 سنوات أردت أن أهدي لروح أمي عملا أدبيا فخمنت أن أنسب هدية هي أن أكتب عن مدينتها (تيسة)، عن تاريخها وحاضرها، وهكذا قضيت 5 سنوات أقرا تاريخ فاس ونواحيها وتاريخ قبيلة الحياينة، وحين أحسست أنني صرت ملما بالموضوع كتبت رواية “وادي اللبن“.
ثانيا: لا أجد أي مشكل في الانتقال من الكتابة الإبداعية إلى كتابة دراسة أو مداخلة، لأن الاستعداد الذهني لكليهما يفرض الانفتاح على عوالم معينة وعلى لغة مناسبة.
وثالثا: أعتقد أن اهتمام القراء بروايتي لا يعود بالضرورة إلى أنني صاحب تجربة بحثية في مجال السيميائيات وتحليل الخطابات، وإنما يعود، أيضا، إلى عنوان الرواية الذي يرتبط بإحدى أهم المعارك التي خاضها المغرب ضد الغزو الأجنبي.
زمن الرواية
- كأكاديمي وناقد أدبي، ألا ترى أننا نعيش في زمن الرواية، ليس بالمعنى الذي أصبح فيه هذا الجنس يعبر عن حاجيات وقضايا وإشكالات الإنسان المعاصر. وإنما بسبب حظوة من جانب المؤسسات. ألا ترى أن ذلك يؤثر ضمنيا على وظيفة الأدب ويجعله تابعا لمفهوم العرض والطلب؟
يصعب الحسم في العامل الأساس الذي يجعل الرواية هي الجنس الأدبي الأكثر أهمية الآن، هل هو قدرتها على تشخيص الحياة في أبعادها المختلفة، أم المتعة الفكرية والجمالية التي توفرها للقراء، أم سهولة كتابتها لأنها تقبل كل اللغات وكل الموضوعات.
كما لا يمكن حسم العامل الأساسي المتحكم في الإقبال على كتابتها، هل هو كثرة الجوائز المخصصة لها، أم شعور من يستطيع الكتابة أنها الجنس الذي يتيح له أن يعبر عن كل ما يريد التعبير عنه.. وبالنسبة لي الرواية الحقيقية هي التي تستطيع أن تشخص الواقع بعمق فكري وجمالي كامن في التركيب واللغة. وهي سمات نادرا ما تتحقق حتى في النصوص التي تنتقيها بعض لجان تحكيم الجوائز الكبرى.