إبن إقليم تاونات الأستاذ محمد الرّخيصي : ذاكرةُ نضالٍ في وجهِ الخُنوعِ

نبيل التويول -تاونات:” تاونات نت”// – بين طيات الزمن الجميل، يقف إبن إقليم تاونات الأستاذ محمد الرخيصي شامخاً كرمز للكرامة، والحرية، والعدالة الاجتماعية.

برز كمعلم ملهم ونقابي مخلص وسياسي محنّك، و ترك أثرًا عميقًا في حياة الأجيال التي تتلمذت على يديه وفي نضالات الجماعة التي احتضنت مواقفه النضاليّة.

الأستاذ محمد الرّخيصي الذي ولد وسط أجواء تقليدية بمدشر تزران التابع للنّفوذ الترابي لجماعة كيسان بإقليم تاونات سنة 1954، لم يكن مجرد معلم يُلقي دروسه وينصرف؛ بل كان رمزا للنضال الصّامت الذي لا يحتاج إلى صخب منذ طفولته.

كيف ننسى حكاية اعتقاله الأول داخل فصله الدّراسي بثانوية القرويين في مدينة فاس موسم 1969/1970، ما حال دون إكماله لدراسته و دفعه في الموسم التالي 1970/1971 لأن ينتقل إلى مدينة شفشاون لإتمام دراسته.

ومع استمرار تطلعاته التّعليمية، وجد نفسه في الموسم الدراسي 1971/1972 في مدينة تطوان، التي كانت تعيش على وقع إضرابات طلّابية عارمة عطّلت الدراسة في العديد من المدن المغربية. استمرت هذه الإضرابات حتى عطلة رأس السّنة، حيث ترك التّلاميذ مقاعد الدّراسة دون رجعة.

وسط هذه التحوّلات، اتخذ الرّخيصي قرارًا مصيريًا بالتقدم لمباراة مدرسة المعلمين في مدينة الرباط، حيث أظهر كفاءته ليبدأ بذلك فصلًا جديدًا ومميزًا في مسيرته المهنيّة والتعليميّة.

عُيّن الرّخيصي في موسم 1974/1975 معلما بمدرسة رغيوة بنواحي مدينة تاونات، تزامنًا مع فترة سياسيّة حرجة. رغم تلك الأجواء، تمكن من أداء رسالته التعليمية وسط اضطرابات أثرت في جميع مناحي الحياة، بما فيها التعليم.

انتقل بعدها في موسم 1976/1977 للعمل بمدرسة الوردزاغ بدائرة غفساي، وبدأت بوادر نضاله تظهر بوضوح حيث تبلورت هوّيته النّقابية والسياسيّة.

لم تكن المدرسة مجرّد مكان للعمل، بل ساحة للتأثير المجتمعي. انخرط في النشاط النقابي، مشددًا على أهمية تحسين ظروف المعلّمين وإصلاح المنظومة التعليمية.

من ساحات النضال..إلى قلم المواجهة :محطات في حياة محمد الرخيصي

خلال نفس العام الدراسي 1976/1977، عمل محمّد الرّخيصي في الوردزاغ لمدة موسم دراسي واحد، وهي فترة اختزلت مواجهات وتجارب شكّلت ملامح التزامه الصّحافي والاجتماعي.

بدأت هذه المحطة تحت إشراف القائد الوغليظي، الذي أثارت مراسلات الرخيصي الصّحافية في جريدة “المُحرّر” حفيظته.

ففي إحدى الّليالي المظلمة والممطرة، زاره القائد برفقة المرحوم الدُّوصْ إلى منزله الذي كان يستأجره من السيد عبد السلام بريول. بأسلوب مباشر، استفسره القائد عن دوافع كتاباته المكثّفة حول الوردزاغ في جريدة المحرّر، مقترحًا التوقّف عن تناول قيادته في المراسلات مقابل تقديم منزل حكومي مجهز بالماء والكهرباء مجانًا، وهو عرض رفضه الرّخيصي بشكل قاطع.

في أعقاب هذا الحادث، جرى استبدال القائد الوغليظي بالقائد الدّريسي، الذي أثار جدلًا من نوع آخر عندما أطلق قطيعًا من الأبقار والأغنام لترعى في الأراضي العامة المحرّمة على السّكان، بما في ذلك المساحات المحيطة بثانوية الأمير سيدي محمد ” ثانوية محمّد السّادس، اليوم ” .

هذه الأحداث دفعت الرّخيصي إلى كتابة مراسلة بعنوان “قائد أم كسّاب؟”، لتتصاعد تداعياتها مع تلقي القيادة فاكسًا يطلب تقريرًا حول الموضوع.

أثناء التحقيق معه، أصرّ الرّخيصي على أنه ليس كاتب المراسلة، تاركًا المسؤولية للجهات المعنية للتحقق بنفسها من المصدر .

محطة جديدة في مسيرة محمد الرخيصي المهنية بالوردزاغ، اتسمت بموقف شجاع يعكس ثباته على المبادئ. ففي اليوم الأول للإضراب الوطني، التحقت الأغلبية من الأساتذة بأقسامها، فيما اختار الرّخيصي المشاركة في الإضراب تضامنًا مع المطالب النقابية.

بقي في ساحة مدرسة الوردزاغ مع التلاميذ، منتظرًا مدير المدرسة الذي وصل لاحقا.

أخبر الرّخيصي المدير بوضوح : “لست مسؤولاً عن تلاميذي، فأنا مضرب “.

لم يمضِ وقت طويل على هذا الموقف حتى وصل وفد من رجال السلطة بقيادة القائد الممتاز علوش، مستفسرًا عن الوضع. توجه القائد إلى الرّخيصي معترضًا: “كيف تعمل الأغلبية وتضرب الأقلية؟” فأجابه بثبات : “كل شخص يتحمل مسؤوليته.” لم يتردد القائد في تسليمه ورقة بيضاء وطلب منه ملأها، حيث تضمنت خيارين لا ثالث لهما: “أقرر الإضراب” أو “لا أقرر الإضراب.

تفحص الرخيصي الورقة بعناية، ثم أرجعها فارغة معللًا ذلك بقوله: “لن أملأها لأنها مجهولة النّسب، فلا تحمل إسم الجهة الصّادرة عنها “.

 أثار جوابه دهشة القائد الذي رد مستفسرًا عن قصده، ليجيبه الرخيصي بحدّة: “الورقة لقيطة، لا عنوان لها ولا جهة مُعرّفة.” هذا الرد الحاسم دفع الوفد إلى الانصراف، لكن ليس قبل أن يوجه القائد تحذيرًا مباشرًا: “تحمّل مسؤوليتك!”.

كانت هذه الواقعة دليلًا إضافيًا على التزام محمد الرّخيصي بمبادئه، حتى في وجه السّلطة. رفضه الامتثال للأوامر دون وضوح، كان موقفًا يعكس حرصه على الحريّة النقابية والشّفافية في القرارات الإدارية، مع الاستعداد لتحمل العواقب.

ظل الرّخيصي نموذجًا للمعلّم الذي لا يكتفي بدوره التعليمي فقط، بل يشارك بفعالية في النضال من أجل الحرية و العدالة والكرامة المهنية.

في الأول من يونيو عام 1977، اعتُقل الرخيصي بسبب مشاركته في مظاهرات تطالب بتحسين ظروف العمل وتحقيق العدالة الاجتماعية. تعرض للتوقيف عن العمل لفترة، لكنها لم تثنه عن مواصلة رسالته. على العكس، زاده ذلك إصرارًا على مواصلة الكفاح.

انخرط الرخيصي في العمل السّياسي من خلال حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. ترشح في الانتخابات الجماعية عام 1983، ثم البرلمانية عام 1984، واضعًا قضايا التّعليم والكرامة الإنسانية في صلب برنامجه.

برزت مواقفه الجريئة في وقت كان فيه الجبن والخوف يخيمان على جميع زملائه في العمل ؟ تلك المواقف الجريئة لم تكن سوى انعكاس لشخصية أبت إلا أن تكون صوت الحق حتى وإن خفتت أصوات الجميع من حوله.

ولأن الرخيصي لا يعرف سوى المواجهة، نراه في لحظة أيقونية، يشعل سجارته، وينفث دخانها في وجه رجال السّلطة، في زمن كان ذلك يعدُّ تحديًا صريحًا للنظام السائد.

هذه المواقف لم تكن عنادًا، بل كانت رسالة بأن الكرامة لا تُشترى، وأن النضال الحقيقي هو الذي يُمارَس عندما يختار الآخرون الصمت و الخنوع.

ولا يتردد الرخيصي في إحياء ذكرى اغتيال عريس الشهداء الشهيد مهدي بنبركة بشكل دوري كلّما سنحت له ظروفه الشّخصية بتنظيم زيارة إلى مدينة باريس الفرنسية، مُظهرًا وفاءه للفكر الاتحادي.

 استمراره في هذه العادة يعكس عمق ارتباطه بالفكر الوطني للرّعيل الأول للمدرسة الاتحادية، مؤكدًا أهمية الحفاظ على الذاكرة الجماعية للقوات الشعبية و التراث السياسي الوطني لحزب الإتحاد الإشتراكي كرافعة لتعزيز الوعي الشعبي.

و في حديثه عن الغش، لا ينتقد الرخيصي التلاميذ فقط، بل يعري منظومة تعليمية بأكملها أصبحت رهينة لثقافة التهاون. الغش لا يُضعف فقط القيم الأخلاقية، بل يقتل الإبداع، ويخلق جيلًا يعتمد على الحيل بدل الاجتهاد.

هذه الظاهرة هي جزء من مشكلات أعمق تتعلق بضعف المناهج، غياب التحفيز، وضعف دور المعلم الذي كان في زمن الرّخيصي رمزًا للتربية قبل التعليم.

رسالة الرّخيصي واضحة : التعليم ليس شهادات تُعلق على الجُدران، بل هو أداة لبناء إنسان قادر على التغيير.

فإذا كانت الحكمة إرث، و المبادئ طريق، فإن محمد الرّخيصي، هو الأب الحكيم الذي علّمنا أن النّضال يبدأ من الفصل الدّراسي، وأن السجارة التي أشعلها ذات يوم في وجه السلطوية و الاستبداد إبان سنوات الجمر و الرصاص، كانت رسالة رمزية تعبّر عن كرامة لا تنكسر.

هو أستاذ، معلم، مناضل، وحارس لذاكرة شامخة تستحق أن تُخلد بأحرف من ذهب.

سيبقى اسمك، يا سِّي مُحمّد، محفورًا في ذاكرة التعليم والنضال. حكيمًا وقورًا وملهمًا للأجيال المتعاقبة.

عن الكاتب

صحفي

تاونات جريدة إلكترونية إخبارية شاملة مستقلة تهتم بالشأن المحلي بإقليم تاونات وبأخبار بنات وأبناء الأقليم في جميع المجالات داخل الوطن وخارجه.

عدد المقالات : 7857

جميع الحقوق محفوظة لموقع تاونات.نت - استضافة مارومانيا

الصعود لأعلى