التبوريدة المغربية: طقوس الفروسية وفنونها

مروة صلاح متولي*- عن جريدة “القدس العربي” لندن:”تاونات نت”//- تعد التبوريدة (نسبة إلى البارود)من أقدم فنون الفروسية في المغرب، حيث يرجع تاريخها إلى القرن الخامس عشر الميلادي. قامت منظمة اليونسكو بتسجيل التبوريدة باسم المملكة المغربية وإدراجها على قائمتها للتراث اللامادي عام 2021. التبوريدة المغربية طقس ثقافي عريق يشغل مكاناً ثابتاً في وجدان الشعب المغربي، ويمثل شغفاً كبيراً لدى أغلبه إما بممارسة هذا الطقس، أو بمشاهدته وتشجيعه ومتابعة فعالياته كما لو أنه يجري في الدم أو يرتبط بالجينات. كثيرة هي المهرجانات والمواسم التي تشهد عروض التبوريدة، وكذلك المسابقات الكبرى التي يقام بعضها تحت الرعاية الملكية السامية، وتُمنح فيها الجوائز لأفضل المجموعات التي قدمت عروض التبوريدة. ولا تقتصر التبوريدة على مكان معين في المغرب، فنراها توجد في كل أرجاء المملكة جنوباً وشمالاً وغرباً وشرقاً، كما تسافر الفرق والمجموعات المختلفة لتقديم العروض خارج المملكة المغربية سواء في الدول العربية أو في البلدان الأجنبية، كذلك لا تقتصر التبوريدة على جنس دون الجنس الآخر، فكما يوجد الفرسان من الرجال توجد الفارسات من النساء، اللاتي يمارسن التبوريدة بكامل أسسها وشروطها، بذات القوة والسرعة والدقة والانضباط، ويعرف المغرب في الوقت الحالي الكثير من مجموعات التبوريدة النسائية، وبعض هذه المجموعات يحصل على جوائز مهمة ويتم تكريمه والافتخار به. وإلى جانب المواسم والمهرجانات المتخصصة يمكن أن نرى التبوريدة في بعض المناسبات الوطنية والإجتماعية والإحتفالات المتعددة. في مواسم ومهرجانات ومسابقات التبوريدة يذهب الناس إلى الساحات المهيأة لإقامة هذه الفعاليات، حيث المضمار العريض الممتد بشكل مستطيل، وعلى جانبيه يوجد مقاعد المتفرجين والجمهور الذي تشكل حماسته بما فيها من صيحات الإعجاب والزغاريد والتصفيق الحاد جزءاً من أجواء التبوريدة ومتعتها الهائلة.
الفارس على صهوة جواده
التبوريدة المغربية عرض من عروض الخيل والفروسية يذهب الناس إلى مشاهدته، يمكن وصفه بالعرض الرياضي الفني التاريخي الحربي، هو رياضي لأنه يجمع بين الرماية والفروسية، ويعتمد بالأساس على ركوب الخيل والتمكن من قيادته وحسن تدريبه والتحكم به، وتطويع الفرسان للجياد ونجاحهم في أداء العرض المطلوب بمهارة جسدية عالية ولياقة بدنية كبيرة، ودقة إطلاق البارود جماعياً في تزامن منضبط، وتمكن الفارس من سلاحه وإجادة الإمساك به في حركات جمالية متنوعة. وهو تاريخي حربي لأنه يحاكي ذهاب الفرسان المغاربة إلى الحروب في الأزمنة القديمة، عندما كان يصعد كل فارس على صهوة جواده، ويمسك بسلاحه ويودع أولاده (ولادي يا ولادي)، وترمز التبوريدة إلى ملاحم وبطولات فرسان المغرب في العصور الماضية، وما خاضوه من حروب في مواجهة المعتدين والغزاة دفاعاً عن الوطن، وتعكس صورة رائعة لهذا الفارس المحارب المدافع عن الأرض مهما تغيرت صورة هذا المحارب وتطورت وسائله في الدفاع. وهو فني لأنه يحتوي على الكثير من العناصر الجمالية وفنون الأداء، لا الأداء الحركي فقط بل والكلامي أيضاً، حيث تلعب الكلمات دوراً مهماً في التبوريدة وتعتبر ضرباً من ضروب التميز فيها، كما أن هناك المتعة البصرية الأساسية للغاية، حيث يبدو الأمر كله كلوحة تشكيلية أبدعتها أنامل رسام ماهر، فيها الحركة والتكوينات والألوان وملابس الفرسان وزينة الخيل، وطراز البنادق ودخان البارود الذي يغلف المشهد ويمنحه لمسة خيالية بديعة مؤثرة. وكذلك التحم فن التبوريدة بالفنون الأخرى كالموسيقى والغناء، وتحديداً الموسيقى التقليدية المغربية، وعبر عنه وتناوله فن العيطة والطقطوقة الجبلية وغيرهما، وهناك بعض الأعمال المشهورة التي تتناول التبوريدة منها ما تقدمه فرقة تكادة من غناء يرافقه استعراض يحاكي التبوريدة وحركاتها، كما تناول الفن التشكيلي التبوريدة ورسمته أنامل الفنانين المغاربة والعالميين.
سلالاته العربية والأمازيغية
يحظى الخيل في المغرب بعناية كبرى وله مكانته المهمة بأصيل سلالاته العربية والأمازيغية، والمعروف أن الحصان من أكثر الحيوانات الحاضرة في دنيا الإنسان على مر التاريخ، وأنه كان ولا يزال موضوعاً فنياً ملهماً بما له من جمال وجاذبية، فرسمه الراسمون وافتتن بصفاته الشعراء واتخذوا منه رمزاً للعزة والشرف والكبرياء والأنفة، وكم رافقت الخيل البشر في حروب ومعارك وفتوحات، وهدم وبناء أمم وحضارات. وفي المغرب هناك بطولات الفروسية التقليدية التي تنتمي إلى تراث المغرب وتاريخه القديم، وبطولات الفروسية المعاصرة المعتادة في شتى أنحاء العالم، ونظراً لأن المغرب مملكة عريقة، لا تزال الخيل حاضرة في الإستقبالات الملكية بتقاليد رصينة ومظهر مهيب. يحيط بالتبوريدة الكثير من الأمور والتفاصيل والحرف التقليدية، بداية من اقتناء الخيل وتدريبها وحسن إعدادها والعناية بها، وصناعة مستلزماتها وأدواتها وزينتها من سرج ولجام وما إلى هنالك مما تتطلبه مشاركتها في عروض التبوريدة، هذا بالإضافة إلى ملابس الفرسان التقليدية، والمكاحل أو البنادق التي يحملها الفرسان وبعض الأشياء والأدوات الأخرى. فهناك الحايك والسلهام والأحزمة وعصابات الرأس، والأحذية التقليدية الخاصة بالفروسية وركوب الخيل، والحقائب التي تعلق على الكتف عبر الجسد والتي يحمل بداخلها المصحف الشريف، وبشكل عام تعد الملابس الخاصة بالتبوريدة كثيرة التفاصيل وهناك الطرق الخاصة التي يجب أن يتبعها الفارس عند ارتداء ملابسه، ولكل جزء من ثياب الفارس وأدواته وأكسسواراته وما يحمله من أشياء دلالته الرمزية كجزء أصيل من تراث بلاده وتقاليدها الحية المستمرة. وللخيل زينتها أيضاً، فالسروج تكون مزركشة ملونة بتصميمات دقيقة الصنع تدعم وضعية الفارس وتثبت وجوده فوق ظهر الحصان، وبعض القطع الجميلة التي توضع على رؤوس الخيل وتتدلى على جبهاتها.

عند بداية عرض التبوريدة يصطف الفرسان بجيادهم بشكل أفقي، كل فارس على جواده إلى جوار الفارس الآخر، وتظهر الأصائل من الخيل على اختلاف ألوانها وأنواعها وأسمائها وطبائعها في مظهر جميل، وتتكون السربة الواحدة من عدد كبير من الأحصنة والفرسان يزيد عن العشرة، يكون الجميع في وضع الثبات في انتظار إشارة الإنطلاق من المقدم أو العلاّم، الذي يكون هو الوحيد الذي يتحرك في ذلك الوقت، يغدو يميناً ويساراً ويروح ويجيء أمام السربة أو مجموعة الفرسان، بصوت عال جهير يتحدث المقدم ببضع كلمات ارتجالية على الأرجح، يكون فيها الحزم والقوة فهو قائد المجموعة وصوتها المسموع، ويسمى هذا الأمر بالندهة، وتختلف الندهة من مقدم إلى آخر، وهناك من يتميز في ندهته ويبدع فيها ويلقى إعجاباً كبيراً من الجماهير. على الرغم من اختلاف الكلمات التي يرددها كل مقدم في بداية التبوريدة، إلا أن هناك بعض الكلمات الثابتة أو النداءات كقول المقدم (وا الخيل، وا المكاحل) على سبيل المثال، والمكاحل جمع كلمة المكحلة وهي اسم عتيق جدا قد يكون من أقدم الأسماء للبندقية لكنه لا يزال مستخدماً في المغرب وفي فنون التبوريدة على وجه الخصوص، وبشكل عام يتميز المغرب باتصال حاضره بماضيه بشكل مستمر وطبيعي، لا يؤخر الحاضر ولا يعيق تقدمه، وفي الوقت نفسه لا يمسخ الماضي ولا يشوهه. وهناك ذكر الله في بداية الأمر سواء من خلال قول (بسم الله) أو قول (توكلنا على الله)، كما يتكرر قول (الحافظ). وهناك بعض الكلمات الأخرى التي نستمع إليها من مقدمي التبوريدة مثل (اتساع، شد، عمروا، ارمي يا خويا ارمي) وغيرها من الكلمات. يأتي دور الكلام في التبوريدة من خلال المقدم، الذي يتحدث في بدايتها ويمكن أن يتحدث أثناء الانطلاق بالخيل أيضاً، ويتفنن كل مقدم في صياغة الندهة الخاصة به وإعطائها البعد الحماسي والدرامي أحياناً، مستهدفاً خلق الأثر الأكبر في نفوس الجماهير الحاضرة، ليهتز الوجدان ويبلغ الحماس أشده وتزداد حرارة التفاعل.
يحمل كل فارس من الفرسان نسخة من كتاب الأذكاؤ محفوظا داخل حقيبة يعلقها على جسده، وتسمى «دليل الخيرات»، كما كان جده الفارس المحارب القديم يذهب إلى الحرب بقلب صبور حاملاً سلاحه ومعتصماً بقرآنه. ولحركة الفارس ووضعية جسده فوق الفرس أو العَود جماليات عديدة، فهناك الركوب في وضع يشبه الوقوف وهناك الوقوف على الفرس بالفعل، وتغيير وضعية الإمساك بالبنادق حسب تعليمات المقدم، وهناك التحية التي تقدمها السربة أحياناً، وفيها ينحني الفرسان برؤوسهم على رقاب الخيل مع توجيه السلاح في وضعية معينة، ومع إسراع الخيل والإنطلاق بها يطير سلهام الفارس في الهواء ويشكل منظراً جميلاً، وفي بعض الأحيان ينزع الفرسان عصابات الرأس ويلقون بها على الأرض قبل وقت قليل من إطلاق البارود.
يمكن النظر إلى التبوريدة كمشهد له بداية وذروة ونهاية، تكون البداية مع اصطفاف الخيل والفرسان في صف أفقي واحد، وندهة المقدم الذي يتحرك أمام الصف كأنه يتفقده ثم يتخذ مكانه في منتصف هذا الصف، ويعد ذلك إشارة للبدء في الركض بالأحصنة، يكون الركض سريعاً في البداية ثم تشتد سرعته وتعدو الخيل سابقة حتى الوصول إلى إطلاق البارود، ثم التوقف بعد ذلك مباشرة عندما يشد الفرسان وثاقها.
السير المعتدل والعدو السريع
تعد الوحدة والتزامن من أهم أسس التبوريدة وعوامل نجاحها، اصطفاف الخيل وتناسق خطواتها في السير المعتدل والعدو السريع، واجتماع الفرسان على قلب رجل واحد، واتباع إشارات قائدهم في تغيير وضعية السلاح والتحرك بالخيل، وإطلاق البارود في اللحظة نفسها فيسمع الصوت كطلقة واحدة. وفي العادة يكون إطلاق النار إلى أعلى لكن في بعض الأحيان يتم إطلاق البارود إلى أسفل، وهذا يتطلب مهارة عالية مع حسن تدريب الخيل على ذلك الأمر حتى لا تضطرب عند إطلاق البارود وتصاعد دخانه تحت أقدامها.
لا يستغرق عرض التبوريدة وقتاً طويلاً منذ أن تصطف سربة الفرسان بجيادها، ويردد المقدم ندهته ويتخذ مكانه وسط المجموعة وينطلق بها، ثم تطلق السربة بارودتها الموحدة وتتوقف، لكنها لحظات استثنائية يتركز فيها الكثير من الجمال ومعاني الشجاعة والشرف والقوة والانضباط، ويمر خلالها الجمهور بمشاعر الترقب والمتعة والفرح والفخر، ويكون إطلاق البارود هو اللحظة المنتظرة التي تدفع حماسة الجمهور إلى أقصى حدودها، وتزيد من غرامه بهذه الفروسية المطبوعة بالطابع المغربي الخالص، الذي يوقظ الحنين ويثير الخيال ويصل الماضي بالحاضر ويذكر بمآثر التاريخ، وينشر النشاط المعنوي والحماسة والفخر بتراث الأجداد.
٭ كاتبة مصرية