ابتسام اعبيبي –عن موقع “رسالة 24”:”تاونات نت”//- يسلط (إبن تاونات) البروفيسور عبد السلام الإدريسي البوزيدي، أستاذ علوم الأعصاب التنموية والمعرفية بجامعة مدينه نيويورك، الضوء على واقع اضطراب طيف التوحد في المغرب مقارنة بالنموذج الأمريكي، محذرا من التأخر في التشخيص والتكفل ومن غياب رؤية وطنية واضحة قائمة على البحث العلمي والتكوين المتخصص. ويرى الإدريسي أن النسب الرسمية المسجلة في الدول النامية ومنها المغرب، لا تعكس الواقع الفعلي لانتشار التوحد، بل تعود في الغالب إلى نقص أدوات التشخيص وندرة الأطر المؤهلة وغياب البنيات البحثية.
في هذا الحوار، يقدم الأستاذ وجهة نظر شاملة ويقترح خطوات ملموسة لتطوير المنظومة المغربية، من أبرزها تكييف الممارسات الجيدة المعتمدة دوليا وإنشاء مراكز بحث وطنية وتوسيع برامج التكوين الطبي والتربوي، مع التأكيد على دور الأسرة المحوري في رحلة التقبل والتدخل والدعم.
كيف تقارنون بين منظومة التشخيص المبكر والتكفل بطيف التوحد في بلادكم ونظيرتها في المغرب؟
تعد منظومة التشخيص المبكر والتكفل بطيف التوحد ركيزة أساسية لضمان تدخل فعال وتحسين جودة حياة الأطفال المصابين وأسرهم. وفي حين أن الولايات المتحدة حققت تقدما كبيرا في هذا المجال، فإن المغرب لا يزال في طور بناء وتطوير منظومته مع وجود تحديات وفرص واعدة.
التشخيص المبكر في الولايات المتحدة تعتمد منظومة التشخيص على برامج وطنية واسعة، مثل برنامج Child Find وبرنامج “تعلم العلامات و تحرك مبكرا” التابع لمراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC). يخضع الأطفال للفحص الروتيني خلال زيارات الرعاية الصحية الدورية بدءا من عمر 18 شهرا، باستخدام أدوات معيارية مثل M-CHAT-R/F. وتقدم هذه الخدمات عبر شبكة متكاملة من أطباء الأطفال، والأخصائيين النفسيين، والمعالجين السلوكيين بالإضافة إلى دعم مبكر في المدارس العامة منذ مرحلة ما قبل الروضة كما يضمن القانون الأمريكي “IDEA” تقديم الدعم المبكر مجانا للأسر.أما في المغرب لا توجد بعد منظومة وطنية موحدة للتشخيص المبكر، وغالبا ما يُكتشف التوحد في مراحل متأخرة، بعد عمر الثلاث سنوات، بسبب نقص الوعي المجتمعي وضعف تكوين بعض المهنيين الصحيين. كما تفتقر المراكز الصحية الأولية إلى أدوات التشخيص المبكر، ويعتمد التشخيص على مبادرات فردية من الأسر التي تلجأ غالبا للقطاع الخاص، مما يزيد من التكلفة ويحد من إمكانية الوصول.
وبخصوص التكفل والعلاج في الولايات المتحدة توجد شبكة متكاملة من خدمات التدخل المبكر تبدأ قبل سن الثالثة، وتشمل تحليلا سلوكيا تطبيقيا “ABA” والعلاج الوظيفي وعلاج النطق، إلى جانب الخدمات النفسية والتعليمية وتمول هذه الخدمات عبر التأمينات الصحية الحكومية أو الخاصة، وتخضع لمعايير صارمة من حيث الجودة والمتابعة كما تتنوع نماذج الرعاية بين المجتمع والتعليم الدمجي والدعم الأسري والرعاية المنزلية.
أما بالمغرب لا توجد برامج وطنية ممولة رسميا للتدخل المبكر، وتقتصر الرعاية على مراكز خاصة وجمعيات مدنية، ذات جودة غير موحدة مع نقص حاد في المختصين بالعلاج السلوكي وعلاج النطق وتعاني الأسر من ارتفاع تكاليف العلاج وضعف التأطير التربوي، فضلا عن غياب برامج دمج فعالة للأطفال المصابين، ورغم وجود مبادرات نموذجية محدودة النطاق جغرافيا، مثل مركز محمد السادس للأشخاص في وضعية إعاقة فإنها لا تغطي الاحتياجات الوطنية.
هل توجد فروقات واضحة في نسب انتشار التوحد بين الدول المتقدمة كالولايات المتحدة والدول النامية؟ وكيف تفسرون ذلك؟
تشير الفروقات المسجلة في نسب انتشار التوحد بين الدول المتقدمة والنامية إلى عوامل متعددة لا تعكس بالضرورة اختلافا حقيقيا في عدد المصابين، بل ترتبط غالبا بمدى توفر أدوات التشخيص ومستوى الوعي، والبنية التحتية الصحية والتعليمية ففي الولايات المتحدة مثلا، أفادت مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها بأن معدل انتشار التوحد سنة 2023 بلغ طفلا واحدا من بين كل 36، وهي نسبة شهدت ارتفاعا مطردا خلال العقود الأخيرة بفضل تحسن أدوات التشخيص وزيادة الوعي وتوسيع تعريف طيف التوحد. أما في المغرب والدول النامية فلا تتوفر إحصاءات وطنية دقيقة، إلا أن التقديرات تشير إلى نسب أقل بكثير قد تقل عن طفل واحد لكل 1000، وهي نسبة يرجح أنها لا تعكس الواقع بسبب ضعف التكوين في مجال التشخيص وغياب الفحوصات في المناطق القروية، وغياب بنية إحصائية وطنية دقيقة. كما أن استمرار الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالتوحد يدفع العديد من الأسر إلى إخفاء الحالات أو التردد في طلب الدعم، على عكس ما هو عليه الحال في الدول المتقدمة حيث أصبح التوحد موضوعا مقبولا ومتداولا في الإعلام. ويضاف إلى ذلك اعتماد هذه الدول على أدوات تشخيص معيارية مثل DSM-5 وADOS، في حين تفتقر الدول النامية إلى الموارد والتكوين الكافي مما يؤثر على دقة التشخيص وينتج نسبا أقل من الواقع.
إلى أي مدى نحتاج في المغرب إلى دراسات وطنية وبنية تحتية للبحث الميداني حول اضطرابات التوحد؟
يعد بناء قاعدة علمية وطنية حول اضطرابات التوحد أمرا عاجلا وضروريا، إذ أن غياب بيانات دقيقة يعني غياب سياسات صحية وتعليمية فعالة.
فالتخطيط السليم يحتاج إلى معطيات موثوقة، وغيابها يؤدي إلى تدخلات عشوائية وإهدار للموارد.
كما أن معظم الأبحاث المتاحة مبنية على نماذج غربية لا تعكس خصوصية الواقع المغربي من حيث اللغة، الثقافة، والفوارق الجغرافية، مما يتطلب أبحاثا ميدانية يقودها خبراء مغاربة متعددو التخصصات لبناء أدوات تقييم وتشخيص تتناسب مع السياق المحلي.
غياب البحث يؤثر أيضا على جودة التكوين المهني والجامعي، إذ لا توجد برامج ماستر أو دكتوراه متخصصة وهذا يحول دون تطوير الكفاءات اللازمة.
بالإضافة إلى ذلك، تشهد مجال اضطرابات التوحد تطورات مستمرة على الصعيد العالمي “مثل تحديثات DSM-5 وICD-11 والتقنيات الحديثة”، مما يستوجب إنشاء مراكز بحث علمي لمواكبة هذه المستجدات وتكييفها محليا.
كيف تقيم مستوى تكوين الأطباء العامين في مجال التوحد بالمغرب؟
أقيم مستوى تكوين الأطباء العامين في مجال التوحد بالمغرب على أنه غير كاف في معظم الحالات، ولا يواكب حجم التحديات المرتبطة بانتشار هذا الاضطراب.
يلاحظ وعيا متزايدا بين الأطباء الشباب بأهمية اضطرابات النمو العصبي، ويعد بعض الأطباء في القطاع الخاص أو الذين تلقوا تدريبا خارج المغرب من ذوي الخبرة المحترمة مع ذلك، يغيب التكوين الإلزامي حول التوحد في مناهج كليات الطب المغربية، ويذكر الاضطراب بشكل عابر في طب الأطفال أو الطب النفسي فقط. كما تفتقر الكوادر إلى المعرفة الكافية بأدوات التشخيص المبكر مثل M-CHAT وCARS، ويحدث خلط بين التوحد والإعاقة الذهنية أو اضطرابات السلوك، ما يؤدي إلى تشخيصات خاطئة أو متأخرة.
بالإضافة إلى ذلك، يعاني نظام الإحالة من ضعف كبير، إذ يطلب من الأهل غالبا الانتظار لفترات طويلة قبل بدء التدخل مما يضيع وقتا ثمينا.
كيف تقيم تكوين أطر التربية في مجال التوحد؟
أرى أن تكوين أطر التربية من معلمين ومربين وإداريين، في مجال التوحد في المغرب يعاني من قصور واضح، رغم بعض النقاط الإيجابية بدأت بعض المدارس الخاصة، خصوصا ذات الطابع الدولي أو الثنائي اللغة، توظف مختصين أو تقدم دورات قصيرة في هذا المجال، كما تقدم بعض الجمعيات ومراكز الدعم ورشات لفائدة المعلمين ضمن إطار التعليم الدامج.
إلا أن غياب أي تكوين رسمي حول التوحد في مراكز تكوين المعلمين يعد عائقا رئيسيا حيث يعاني كثير من الأساتذة من عدم التمييز بين الطفل المتوحد والطفل المشاغب أو المنطوي، ولا تتوفر لديهم أدوات أو بروتوكولات واضحة للتعامل مع التوحد داخل الفصل الدراسي. كما يفتقر أغلب المدارس العمومية إلى مرافقين تربويين مؤهلين يقدمون الدعم المطلوب للأطفال المصابين.
هل يمكن نقل بعض الممارسات الجيدة من الجامعات الأمريكية لتطوير التكوين في المغرب؟
أعتبر أن نقل وتكييف بعض الممارسات الجيدة المعتمدة في الجامعات الأمريكية إلى المغرب أمر ممكن وضروري لتعزيز الكفاءة في مجال تشخيص التوحد والتدخل المبكر.
يمكن اعتماد برامج تدريبية متخصصة تعتمد أدوات تشخيصية معترف بها دوليا، وتطوير برامج أكاديمية متخصصة بالتعاون مع جامعات أمريكية.
كذلك يمكن تنظيم ورشات تدريبية مشتركة تجمع بين أطباء وأخصائيين تربويين لتعزيز العمل متعدد التخصصات. يساعد على تبادل الخبرات والبعثات العلمية في رفع مستوى التأهيل وتحسين جودة الخدمات المقدمة كما تساهم التكنولوجيا في توفير موارد تعليمية وتدريبية متاحة عن بعد لتغطية احتياجات المناطق النائية
.كيف تقيم دور المركز الوطني محمد السادس للأشخاص في وضعية إعاقة في هذا المجال؟
أثني على الدور المحوري الذي يقوم به المركز الوطني محمد السادس للأشخاص في وضعية إعاقة في مجال التوحد، إذ أسس أقساما متخصصة في التشخيص والتكفل بأطفال التوحد، ونظم ورشات تكوين مستمر لفائدة الأطباء والمعلمين والمربين، وقدم خدمات تدخل مبكر مجانية أو شبه مجانية. كما ساهم المركز في إبرام اتفاقيات تفاهم مع جامعات أمريكية مرموقة لتعزيز تبادل الخبرات، وإرسال أطر مغربية للتدريب في مراكز متخصصة، وتنظيم ندوات وورشات مشتركة، وإطلاق مشاريع بحثية ميدانية. هذه الخطوات تمثل نواة قوية يمكن البناء عليها لتعميم الممارسات الناجحة على مستوى المملكة.
هل هناك دراسات حديثة تفيد بإمكانية الشفاء من طيف التوحد؟
يثار هذا السؤال كثيرا في الأوساط العلمية والأسرية، ويعكس رغبة إنسانية عميقة في فهم مصير الأطفال المصابين بطيف التوحد. لكن لا توجد حتى اليوم أدلة علمية قاطعة تثبت إمكانية “الشفاء التام” من التوحد، لكن تظهر بعض الدراسات أن عددا محدودا من الأطفال قد يحققون ما يعرف بـ”النتيجة المثالية” Optimal Outcome، أي تحسنا كبيرا يجعلهم لا يستوفون لاحقا معايير التشخيص الرسمية.
أبرز مثال على ذلك، ما خلصت إليه دراسة د. ديبورا فاين (Deborah Fein) سنة 2013 بجامعة كونيتيكت، حيث تابعت حالات لأطفال شخصوا في سن مبكرة بالتوحد، وخضعوا لتدخلات علاجية مكثفة وأظهر بعضهم تحسنا كبيرا مع ذلك، لاحظ الباحثون أن هؤلاء الأطفال احتفظوا ببعض الصعوبات الطفيفة في مجالات مثل الانتباه أو التفاعل الاجتماعي، رغم خروجهم من نطاق التشخيص الرسمي.
هل تظهر برامج التدخل المبكر فعالية؟
تظهر برامج التدخل السلوكي المكثف، مثل تحليل السلوك التطبيقي (ABA)، فعالية واضحة خصوصا عند البدء بها قبل سن الثالثة. تساعد هذه البرامج على تحسين التواصل، وتقوية المهارات الاجتماعية وتقليل السلوكيات النمطية في بعض الحالات يستطيع الطفل الاندماج لاحقا في التعليم النظامي دون الحاجة إلى دعم خاص إلا أن هذا التحسن لا يعد شفاء بل هو تطور وظيفي يمكن الطفل من قدر أكبر من الاستقلالية والنمو الاجتماعي.
هل توجد دراسات واعدة نحو علاج بيولوجي أو جيني؟
تجرى حاليا عدة أبحاث واعدة في هذا المجال منها دراسات حول العلاج الجيني لحالات نادرة مثل متلازمة ريت “Rett Syndrome” أو الكروموسوم الهش “Fragile X” .
كما تختبر علاجات بالخلايا الجذعية، وأدوية تستهدف أنظمة السيروتونين والدوبامين لتحسين بعض الأعراض إلا أن معظم هذه الأبحاث لا تزال في مراحلها التجريبية ولم تثبت فعاليتها على نطاق واسع.
ما هي الخلاصة العلمية؟
لا يمكن الحديث عن “شفاء تام” من طيف التوحد بالمعنى الطبي التقليدي لكن يمكن الوصول إلى تحسن وظيفي كبير لدى العديد من الأطفال، خاصة من ذوي الذكاء المتوسط أو المرتفع، إذا حظوا بتدخل مبكر وبيئة داعمة. ولذلك، ينبغي أن يوجه التركيز إلى تمكين الطفل وأسرته وتعزيز فرص التكيف والاستقلالية، بدل انتظار علاج نهائي غير مضمون.
كيف يمكن للأسرة أن تتعامل مع طفلها بعد تشخيصه بالتوحد ؟
يتطلب التعامل مع تشخيص التوحد وعيا عاطفيا وعلميا يبدأ أولا بتقبل الأسرة للتشخيص دون إنكار فرفض الواقع أو تأجيل الاعتراف بالحالة يؤخر التدخل المبكر وهو عامل حاسم في تحسين نتائج الطفل. يجب على الأسرة أن تدرك أن التوحد ليس “وصمة” ولا “عقوبة”، بل اختلاف في طريقة نمو الدماغ وأن التقبل هو أول خطوة نحو التغيير.
ما الذي يجب أن تفعله الأسرة بعد التشخيص مباشرة؟
ينبغي أن تبدأ الأسرة في البحث عن معلومات علمية دقيقة من مصادر موثوقة، مثل الأطباء المتخصصين في النمو العصبي أو الأخصائيين النفسيين والتربويين أو من خلال جمعيات جادة أو مراكز تابعة للمركز الوطني محمد السادس. يساعد التكوين الجيد الوالدين على اتخاذ قرارات مستنيرة وتجنب الوقوع في فخ المعلومات الخاطئة أو العلاجات الوهمية.
كيف تبدأ الأسرة التدخل مع طفلها في بيئة مغربية محدودة الموارد؟
حتى دون إمكانيات مادية كبيرة، تستطيع الأسرة بدء تدخل مبكر من خلال التواصل البصري وتنظيم روتين يومي، واستعمال الصور والرسوم لتسهيل الفهم والاعتماد على اللعب التفاعلي بدل الانعزالي. أصبحت العديد من الأمهات المغربيات يكتسبن مهارات تدريبية فعالة بعد حضور دورات أو ورشات في جمعيات محلية.
ما الذي يجب أن تتوقعه الأسرة في مسار التعايش مع التوحد؟
يجب أن تدرك الأسرة أن التوحد ليس “مشكلة تنتهي بسرعة”، بل هو مسار طويل يحتاج إلى صبر ومثابرة. قد يكون التقدم بطيئا، لكن كل خطوة صغيرة تشكل إنجازا كبيرا. وعلى الأهل أن يركزوا على نقاط القوة في طفلهم مثل دقة الملاحظة أو حب الألوان أو قوة الذاكرة، بدل التركيز فقط على ما يفتقده.
كيف تحمي الأسرة طفلها من النظرة المجتمعية السلبية؟
تواجه الأسر المغربية أحيانا نظرات قاسية أو تعليقات خاطئة من المجتمع لذلك، يجب أن يتحلى الأهل بالثقة والوعي، وأن يحاولوا توعية المحيط تدريجيا من خلال مشاركة قصص النجاح مع الجيران والأقارب والتي تساهم في تغيير نظرة المجتمع وتعزيز ثقافة القبول.