دراسة أهمية المنابع في تنظيم المجال والمجتمع باجبالة تاونات
ذ. عبد الواحد العمراني:”تاونات نت”/شكل عنصر الماء عبر مر التاريخ أحد أهم عناصر الصراع القبلي كما شكل عنصرا لبناء حضارة العديد من الدول، وفي هذا الإطار أشار المؤرخ اليوناني “هيرودوت” خلال القرن السابع قبل الميلاد إلى أن معظم الحضارات القديمة قامت بناء على المصادر المائية كالحضارة الفرعونية بمصر، حيث صرح بقولته التاريخية المأثورة في هذا الشأن بأن “مصر هبة النيل” (الموسوعة العربية العالمية، 2004).
يعتبر عنصر الماء، وما يترتب عنه من استعمالات مختلفة من أهم العناصر التي تقيد وتكره الاستقرار البشري. وهكذا فاختيار الأماكن السكنية بالمناطق الجبلية كثيرا ما يقع على أسوء الأراضي إما من حيث الطبيعة الطبوغرافية أو نوع التربة، بهدف ترك الأراضي المنبسطة للاستغلال الزراعي (بريان وآخرون، 1982). وفي هذا االسياق فقد حدد ابن خلدون شروط الاستقرار البشري في مكان ما في شرطين أساسين يجب مراعاتهما عند الرغبة في اختيار مكان الاستقرار وهما: دفع المضار، وجلب المنافع، واعتبر أن أول ما يجب مراعاته في جلب المنافع هو وفرة الماء بأن يكون البلد على نهر أو بإزاء عيون عذبة ثُرَةً، فإن وجود الماء قريب من البلد يسهل على الساكن حاجة الماء، وهي ضرورية فيكون لهم في وجوده مرفقة عظيمة وعامة (ابن خلدون، طبعة 1981).
ارتبط استقرار السكان بمجال الجبال المنخفضة للريف الأوسط بتوفر ظروف طبيعية واقتصادية وسياسية أمنية ملائمة، بحيث لا يجب أن نفصل بين هذه العوامل لكون كل واحد منها يؤثر في الآخر، وكلها عوامل تتحكم إلى حد كبير في تنظيم مجال الإنتاج على اعتبار أن علاقة الإنسان بالأرض لا تزال تحددها قوى الطبيعة. وفي هذا الإطار لعب الماء باعتباره موردا طبيعيا دورا محوريا في تشكيل مراكز وتجمعات سكنية كبرى، حول العيون الدائمة التدفق، غيرت معالم المجال الريفي، ويظهر هذا بمنطقة الدراسة في كون مجموعة من الدواوير تحمل أسماء العيون مثل: عين مديونة وعين الحوت وعين أغماري وعين عبدون … كما أن هناك تطابقا تاما بين النقط المائية ومواضع الدواوير، وهذا ما يفسر كون ساكنة مختلف الدواوير بالمنطقة مستقرة فوق سفوح الجبال وفي قدمها. بالإضافة إلى ذلك ساهم انبثاق مجموعة من العيون الجديدة بالمنطقة والعمل على إحياء بعضها عبر تهيئتها خلال السنوات الأخيرة في ظهور وإنشاء منازل جديدة بالاسمنت بالقرب منها. كل هذا أدى إلى تقليص عملية النزوح في اتجاه المراكز شبه الحضرية الناشئة بالمنطقة، ويفسر هذا بكون الماء متوفر بشكل كافي في الجبال مقارنة مع الدواوير الواقعة في السافلة.
ويرتبط هذا التنظيم المجالي الجماعي والاجتماعي بارتكازه على أسس الوحدة باجماعة القبيلة، والتي يظهر دورها في هيكلة المجال الريفي من خلال اختيار مواضع منيعة مشمسة ومشرفة للاستقرار وبالقرب من نقط الماء والمجالات الزراعية والرعوية، كل هذا ليس وليد الصدفة بل يعكس مدى التخطيط المحكم لسكان المنطقة القدامى في تعاملهم مع المجال ومراقبته ككل. بالإضافة إلى هذا يختار السكان بمنطقة الدراسة مواضع للاستقرار لإنشاء بيوتهم عند منتصف الانحدار متوسطة البساتين (العرص أو الجنانات)، لأن هذه الأماكن توفر المياه لممارسة النشاط الزراعي، حيث نجد في الجهة العليا الغابة والمراعي بينما في الجهة السفلى نجد المشارات الزراعية وفي الوسط تتركز المنازل حول العيون.
وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أن شبكة السواقي المائية تتدخل بشكل أساسي في تنظيم عناصر المشهد الريفي ويتجلى ذلك من خلال المنظر العام للمجال، حيث إن معظم المنازل أو الدور السكنية تتموضع بالقرب من السواقي وعلى طول امتدادها وخاصة تلك التي تم بناؤها حديثا. كما أن تعمير وتطور المشهد الريفي وكذا تغير مرفولوجيته بسبب رجوع عدد كبير من سكان المنطقة المستقرين بالحواضر الكبرى (فاس، مكناس، الدار البيضاء، الرباط…) إلى الدوار والعمل على بناء منازل جديدة أو القيام بترميم وإصلاح الدور القديمة التي تم هجرها من قبل، يرتبط بشكل أساسي بامتداد شبكة السواقي وتخطيطها الهندسي. بالإضافة إلى ذلك فالمجال المجاور للعين أو الواقع في سافلتها يتميز بالخضرة وطغيان المجال المسقي طيلة السنة، بينما الجزء الواقع في عاليتها يتميز بسيادة المجال البوري.
إن امتداد شبكة السواقي على مجال واسع يسهم في افراز اختلافات وتباينات مجالية واضحة بين سافلة وعالية محيط العين، كما أن هذه الأخيرة تؤثر كذلك على انتاجية الأرض لأن المشارات الزراعية القريبة من مجرى الساقية أو العين تكون لها أهمية اقتصادية كبرى بالمقارنة مع الأراضي البعيدة عن مجال امتداد السواقي، ويرجع ذلك إلى كونها تستفيد من الماء رغم تراجع صبيب مصدر السقي. بالإضافة إلى ذلك فالتوزيع المجالي للماء بواسطة شبكة السواقي يعكس التنظيم الخطي للمجتمع الريفي.
لائحة البيبليوغرافيا المعتمدة في انجاز المقال:
ü حسن بنحليمة وعبد الله العوينة ومحمد بريان، 1982: قراءة وتحليل الخريطة الطبوغرافية. منشورات اللجنة الوطنية المغربية للجغرافية، الرباط (302 ص).
ü عبد الرحمان بن خلدون،طبعة 1981: المقدمة، بيروت.
ü عبد الواحد العمراني، 2014: أطلس العيون المائية بعالية حوض ورغة الأوسط ودورها في تنظيم المجال والمجتمع (حالة جماعات: عين مديونة وبوعادل وبني وليد) أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في الجغرافية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب سايس – فاس، 378 ص.
ü الموسوعة العربية العالمية، 2004.
عن الكاتب
مواضيع ذات صلة
اكتب تعليق
لابد من تسجيل الدخول لكتابة تعليق.