سكان المغرب الأولون
د. العربي اكنينح°-فاس:”تاونات نت”/قديما قيل: لاتبصق في البئر، ربما ستضطر للشرب منه…
كثر الحديث في هذه الأيام عن اللغة العربية واللغة الأمازيغية. فهناك من كتب مقالة ، هي عبارة عن مظلومية ، تحت عنوان : “دفاعا عن اللغة العربية”، وهناك من يرافع ويناضل، باستمرار، من أجل قضية إسمها: ترسيم اللغة الأمازيغية.
و المرء المحايد الذي يتابع طروحات هؤلاء وأولئك، يستشف، أنه يوجد في المغرب اليوم ، فريقان متصارعان يريد كل واحد منهما دك الآخر وإقصائه من الساحة السياسية والإنفراد، بالتالي، بقصب السبق وفرض وجوده على حساب الأخر.
وفي هذا السياق، انتقل التباري مؤخرا، إلى قبة البرلمان مؤخرا، حيث طرح أحد النواب، أثناء الأسئلة الشفوية الأسبوعية، سؤالا بالأمازيغية، وطلب الجواب عليه بنفس اللغة. وإلى جانب هذا وذاك، وجهت في شهر نونبر الماضي ، 800 جمعية أمازيغية وتنسيقية حقوقية ونسائية مذكرة مشتركة إلى رئيس الحكومة وإلى جميع الوزراء ورئيسي مجلس النواب والمستشارين والأحزاب السياسية والمؤسسات الدستورية ، تطالب فيها بإقرار مقتضيات صريحة تساوي بين اللغتين الرئيسيتين العربية والأمازيغية. ونصت إحدى الفقرات الواردة في نفس المذكرة ،على ضرورة مراجعة محتويات برامج التعليم ، وإعادة النظر في تدريس تاريخ المغرب انطلاقا من قراءة جديدة.
غلاف كتاب أصول المغاربة لمؤلفه ألدكتور إكنينح
وفي هذا الصدد، سبق لنا، في مقالة سابقة ، تحت عنوان: ” اللغة ،والهوية، والعولمة، والإستعمار” ، أن أشرنا إلى أن الأغلبية الساحقة من المغاربة سواء منهم الذين يدعون الإنحدار من سلالة أمازيغية ، أو أولئك الذين يزعمون الإنتماء إلى جذور عربية، لايعرفون شيئا عن تاريخ بلادهم، بما فيهم حملة الشواهد العليا، من أطباء ، ومهندسين ، ومحامين، بل و من أساتذة جامعيين، أضف إليهم الكثير من المنتمين إلى الطبقة السياسية التي تسير البلاد؛ وحتى الذين لهم إلمام ببعض جوانبه، لا يعرفون منه سوى القليل.
وهذه هي الطامة الكبرى، إذ نجد الناس اليوم يتموقعون في فريقين عرقيين متصارعين بناء علي أوهام كاذبة، وعلى وعي مغلوط ، وجهل تام بحقائق تاريخ بلادهم الذي شوهه كتاب الإستعمار، وأعطوا للمغاربة صورة ملغومة، مفادها أن تاريخ المغرب هو عبارة عن صراع بين العرب والبربر، وأن البربر هم سكان المغرب الأولون، وهم بذلك أصحاب الحق في هذه البلاد ، وأن العرب هم مجموعة من الغزاة والدخلاء، يجب التخلص منهم وطردهم من المغرب.
هذه ثغرة فتحها الإستعمار للتفريق بين أبناء الشعب الواحد بغية إحكام السيطرة عليه والإمساك بناصيته. ولازالت هذه السموم الإديلوجية، مع الأسف، مدسوسة في كتب تاريخ المغرب وبلاد المغاربة بصفة عامة، يرجع إليها الغلاة من مواطنينا للدفاع عن طروحاتهم السياسية، ومرافعاتهم الشوفينية؛ لكن من هو الأمازيغي اليوم؟ ومن هو العربي؟
على غلاف كتابنا “في المسألة الأمازيغية ، أصول المغاربة ” ( عرب، أمازيغ، زنوج، وآخرون…) ، الصادر سنة 2003 عن مطبعة أنفو- برانت، فاس ، كتبنا ما يلي: ” كثير من المغاربة من ذوي النزعة العروبية، ولاسيما العامة من أهل فاس، يعتقدون، عن جهل، أنهم ينحدرون من أصول عربية قحة، في حين أن شواهد التاريخ تثبت أن جذورهم أمازيغية محضة. وكثير من المغاربة من ذوي النزعة البربرية، يعتزون بكونهم ينتسبون إلى أصول أمازيغية خالصة، في حين تؤكد مصادر التاريخ أن العديد من الفرق منهم ترجع في أنسابها إلى القبائل العربية. وعلاوة على هذا وذاك، يجهل معظم الناس عندنا أن الأمازيغ والعرب ينتمون إلى سلالة واحدة هي السلالة الحامية- السامية.
فتوحات إسلامية للمغرب
وحتى بالنسبة للشرفاء الأدارسة، ينسى الكثير منا أيضا أن إدريس ابن إدريس ينحدر من أب عربي وأم بربرية ، هي كنزة النفزية. وفي نفس السياق. أوردنا باللغة الفرنسية على نفس الغلاف: ( Les études menées jusqu’à présent en Afrique du Nord insistent sur l’hétérogénéité génétique des Berbères et sur l’impossibilité d’établir un profil génétique paléo-nord africain… Ceci dit, et à une exception près, celles des populations touarègues, les résultats des analyses basées sur les systèmes immunologiques et les enzymes , même partiellement contradictoires, mettent en évidence , d’une part , l’inexistence au Maghreb d’une quelconque frontière génétique entre berbérophones et arabophones, et attestent d’autres part, des gradients de variation génétiques allant d’est en ouest et du nord au sud…)
إن هذه الشواهد تثبت أنه في مغرب اليوم ، يصعب الفصل، بعد مرور 14 قرنا من العيش المشترك، بين العرب والبربر، وتصنيف الناس إلى عرب وبربر.
وحتى يتعرف المغاربة أكثر، على جذورهم ، وحقائق تاريخهم، نقدم هنا نظرة، ولوموجزة ، عن الروافد الأساسية التي تشكل منها الشعب المغربي ،عبر مختلف تاريخه ،منذ أقدم العصور .
ينحدر سكان المغرب الأولون، كما بيناه في كتابنا السالف الذكر، من جنس البحر المتوسط، ثم جاء البربر في مرحلة لاحقة من الشرق الأوسط واليمن. وفي القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وصل الفنيقيون إلى شمال إفريقيا قادمين من فنيقيا ( لبنان الحالي). ثم جاء بعدهم ،بالتتابع ، الرومان ثم الوندال، ثم البزنطيون .
وفي القرن السابع الميلادي، وصل العرب الفاتحون الذين تمكنوا من الإنتشار في كل ربوع شمال إفريقيا بالإضافة إلى الأندلس. وكان عرب الفتح ، في البداية، يتكونون بصفة عامة من الجنود والسرايا العسكرية. ولم يكن عددهم كبيرا. إلا أنه مع أواسط القرن الحادي عشر الميلادي، وصل عرب بني هلال وبني سليم إلى المغرب الأوسط، وانتشروا في سهوله وهضابه وعمروا أراضيه. وفي عهد عبد المومن الموحدي وخلفه أبو يوسف يعقوب، حلت قبائل الخلط ، وسفيان ، وبني مالك، في سهول الغرب ، وقبيلتا بني موسى وبني عامر في تادلا، بالإضافة إلى عرب بني رياح، وبني جثم، وعدي. وإلى جانب هذه الأفواج البشرية، وصل عرب بني معقل الذين دخلوا إلى إفريقيا (تونس الحالية) ، ضمن قبائل بني هلال، إلى جنوب المغرب مع منتصف القرن الثالث عشر الميلادي ، واستقروا في قفار الصحراء ، من مصب واد ملوية إلى ضفاف المحيط الأطلسي. عندما دخل العرب إلى شمال إفريقيا، وجدوا أنفسهم أمام ثلاث كتل بشرية أمازيغية ضخمة هي: مصمودة ،وصنهاجة، وزناتة.
لدكتور-العربي-اكنينح
وبعد انفصال الغرب الإسلامي عن المشرق، بعد سقوط الأمبراطورية الأموية في سنة132 ه، وقيام الدولة المركزية في المغرب، منذ عهد الأدارسة، وجد السلاطين أنفسهم أمام أتحاديات قبلية كبرى، أو لنقل كتل يشرية ضخمة ( صنهاجة، مصمودة، زناتة، بنو هلال، بنو سليم ، بنو رياح، بنو معقل، الخلط، سفيان، بنو مالك، بنو موسى، بنو عامر، بنو عدي، بنو جثم )، يصعب تطويعها، وإخضاعها، وأخذ الجباية منها. فكان من الطبيعي أن تتدخل الدولة لإضعاف الأحزاب ،أي القبائل. وهنا نشير إلى أن الحزب الأول في تاريخ المغرب وغيره من الدول الإفريقية، هو القبيلة . فصنهاجة ، بزعامة قبيلة لمتونة هي التي أسست الدولة المرابطية. ومصمودة هي التي انبثقت منها الأمبراطورية الموحدية. وزناتة منها خرجت الدولة المرينية. والسعديون والعلويون اعتمدوا أيضا على القبائل ونسبهم الشريف للوصول إلى السلطة. فلإضعاف القبائل المشار إليها سابقا ، شرعت الدولة المغربية ، منذ عهد الأدارسة ، في تقسيم القبائل العربية والأمازيغية منها ،إلى فرق صغيرة وعملت على ترحيلها من أماكنها ، وتغريبها إلى جهات نائية، بحيث توطن فرقة من قبيلة بربرية وسط قبيلة عربية، وتزرع في المقابل ، فرقة من قبيلة عربية وسط قبيلة بربرية. وحسنا فعلت ،لأنها تمكنت، مع مرور الزمن، من صهر سكان المغرب في بوتقة واحدة ، وإلا لكنا اليوم أمام مغرب الجهات والكيانات المجهرية.
وفي هذا الصدد، نخشى أن تسفر الجهوية المتقدمة المعمول بها اليوم، عن تطلعات انفصالية قد تغذيها جهات خارجية لا تريد الخير لهذا البلد.
بعد هذا العرض الوجيز، نرى من المفيد هنا ضرب أمثلة محسوسة ،للإستدلال على أنه في مغرب اليوم، يصعب التمييز بين أفراد الشعب الواحد، والقول أن هذه القبيلة بربرية وتلك عربية.
خريطة تواجد قبائل صنهاجة المغرب وفروعها
توجد في بلادنا أربع قبائل من أصل أمازيغي تحمل إسم كزناية. الأولى توجد في ناحية تازة وتتكلم لهجة أمازيغية قريبة من لهجة تريفت. وتوجد الثانية في مدخل طنجة من جهتها الغربية، وتتكلم اللغة العربية الدارجة ، ولاتعرف شيئا عن اللغة الأمازيغية. والثالثة توجد في جماعة عين مديونة، إقليم تاونات، وتتحدث اللغة العربية الدارجة، ولا تعرف شيئا عن اللهجة الأمازيغية. وتوجد الرابعة في كاف الغار تحمل اسم بني كزين وتتحدث لهجة عبارة عن خليط من العربية والأمازيغية. وتوجد أيضا قبائل تحمل إسم مديونة من أصل أمازيغي. تنتشر الأولى في جماعة عين مديونة وتتحدث العربية الدارجة . وتوجد الثانية والثالثة والرابعة، بالتتابع ، في اشراكة والدار البيضاء وطنجة ، وتتحدث كلها العربية الدارجة، في حين توجد الخامسة في ضواحي صفرو وتتكلم الأمازيغية.
ونفس الشيء بالنسبة لقبيلة تازوطة، حيث توجد قبيلتان في عين مديونة ودكالة، يتحدث أهلها اللغة العربية الدارجة، بينما توجد فرقة أخرى في ضواحي صفرو تتكلم الأمازيغية. و قبيلة صنهاجة الكبرى هي الأخرى لم تسلم من هذا التقسيم والتغريب . فهناك صنهاجة الجنوب ، وهناك صنهاجة الأطلس الكبير( صنهاجة وسلست) ، و الأطلس المتوسط التي يتكلم أهلها اللهجة الأمازيغية. وهناك صنهاجة الشمس والظل في إقليم تاونات، يتحدث أهلها العربية الدارجة ونسوا أصلهم الأمازيغي.
وفي منطقة الريف توجد صنهاجة مصباح وصنهاجة غدو يتحدث أهلها تريفت. وبالإضافة إلى هذه الإشارات، كانت القبائل المسماة بالبربرية ، تضم أفخاذا بأكملها تنحدر من أصل عربي. ففي بني مطير مثلا، نجد عناصر عربية كثيرة تبربرت ، ثم تجمعت فيما بعد ، في فرقة تسمى آيت علي وعلي والتي أصبحت تحسب على هذه القبيلة. وفي أيت عطا ، تعيش فرق برمتها داخل هذه الإتحادية تعود أصولها إلى القبائل العربية ، مثل بني محمد وهي قبيلة عربية من تافلالت ، وآيت علوان، وآيت شعيب ، وآيت شاكر. وهذه الأنساب معترف بها من طرف آيت عطا نفسها ،ويتحدث أهلها الأمازيغبة. وفي قبيلة اشراكة التي تحسب على القبائل العربية، نجد أنها تكونت في الأصل من أخلاط من القبائل، منها من ينحدر من أصل عربي مثل الشجع ، وبني عامر، ومنها من ينتمي إلى أصل بربري مثل مديونة ، وهوارة، وبني سنوس.
ويجهل عامة الناس فيها أصولهم ،لأنهم اندمجوا وانصهروا في بوثقة واحدة ، ولا يعرف عربهم من بربرهم . ونفس الشيء ينطبق على المدن. ففي فاس مثلا، نجد القبائل الأولى التي نزلت مع مؤسسها المولى إدريس ، وهي أوربة، ومصمودة، وكرواوة، وأشنيخن، ثم بعد ذلك استوطنت لمطة في حومة اللمطيين. ثم توافدت على هذه المدينة هجرات عربية أخرى، من القيروان ( عدوة القرويين) و الأندلس (حومة الأندلسيين) .
وفي عهد بني مرين، تم تأسيس مدينة فاس الجديد التي استقرت فيها الخاصة من زناتة من شيعة وأتباع الدولة الجديدة. ومع مرور الزمن، التحق بها أيضا أخلاط من الأجناس من كل جهات العالم. وهؤلاء الناس هم الذين أصبحوا، فيما بعد، يسمون أهل فاس ويدعون الإنحدار من أصول عربية. وبالإضافة إلى هذا وذاك، يشكل العنصر الزنجي الإفريقي مكونا هاما من مكونات الشعب المغربي بل و المغاربي، في جميع قبائل ومدن شمال إفريقيا.
وفي هذا الصدد أيضا ، يجب أن يعلم إخواننا الأمازيغ أيضا ،وأنا واحد منهم، أن أجدادنا كانوا يعتقدون أنهم لايمكنهم أن يكونوا مسلمين حقيقيين إلا إذا تعلموا ا اللغة العربية ، لغة القرآن . وفي هذا السياق ، كان النسابة البربر يوصلون القبائل البربري بأصول عربية . فعندما تحدث مؤرخو الدولة الموحدية مثلا ، عن المهدي بن تومرت المصمودي الأمازيغي، رفعوا نسبه إلى علي ابن أبي طالب، وحرصوا على التأكيد على نسبه الشريف. وفي نفس الإتجاه، أشار ابن أبي زرع الفاسي ، عند تأريخه لحكم بني مرين الزناتيين، إلى أن أصولهم تعود إلى الجنس العربي من سلالة نزار ابن معاذ ابن عدنان ” فمن زناة بن جانا ،تفرقت قبائل زناتة . فهم عرب صريحون.
غلاف كتاب أثار التدخل الأجنبي على المغرب
ومن هذا المنطلق أيضا ، فليعلم الناس عندنا ،عرب وأمازيغ، أن المسألة الأمازيغية ، قبل الفترة الإستعمارية، لم تكن مطروحة للنقاش ،كما هو الحال اليوم . فقد كتب ابن رشد ، وهو أمازيغي، باللغة العربية . وقبله خطب طارق ابن زياد في جيشه، أثناء فتح الأندلس، خطبته الشهيرة المنسوبة إليه ” أيها الناس ، العدو أمامكم والبحر من ورائكم أين المفر…” وبعد ذلك كتب لحسن اليوسي كتابه الشهير،”المحاضرات” باللغة العربية . ثم بعده كتب الإفراني ، صاحب نزهة الحادي ، والمختار السوسي، صاحب كتاب المعسول، وعبد الكريم الخطابي صاحب المراسلات العديدة ، بالعربية. وهؤلاء الرواد الأمازيغ كانوا يعشقون اللغة العربية، ولم تكن لهم تطلعات طائفية، أو لغة خاصة معيارية، حرفها تيفناغ ، أوتيفناق ، نسبة إلى الفنيقيين الساميين الذين تجمعهم بالعرب روابط إثنية واحدة.
°أستاذ محاضر- باحث قي التاريخ / من مواليد إقليم تاونات