من يربح الحرب لا يخشى السلم…بقلم الكاتب والصحافي محمد الأشهب
يغيب عن البعض أن المغرب استرجع الصحراء سلميا، ودافع عنها حربيا، وأعمرها ديمقراطيا. وهو مستعد لأن يفعل المستحيل من أجل إعلاء لواء الوحدة والسيادة والكرامة. ولولا أنه ربح حرب الصحراء التي دارت رحاها على امتداد 15 سنة، بكل شهامة ووثوق في سلامة موقفه الدفاعي، لما دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ بإرادة منه. ولولا أن الجزائر كانت طرفا محوريا في التزام وقف الهجمات العدوانية الصادرة من أراض تقع تحت نفوذها، وبتأطير من جيشها ودعم من دبلوماسيتها، لما تأتى للأمم المتحدة أن تشرع في مسلسل التسوية السلمية المتعثرة. لكن الجزائر فعلت ذلك مكرهة تحت تأثير الهزيمة، فلا بد أن تذعن في النهاية لأوفاق السلم الأشد ضراوة.
بعض الحقائق تقود إلى استنباط خلاصات لا جدال حولها، ومن ذلك أن حرب المغرب الدفاعية التي شملت الميادين العسكرية والإنمائية والديمقراطية والدبلوماسية لم تتوقف أبدا. بل مستمرة بأشكال جديدة وفق مقتضيات المرحلة. وفي مقدمتها استعادة الإنسان بعد استعادة الأرض. أي رفع المعاناة عن المواطنين المغاربة المتحدرين من أصول صحراوية المحتجزين في مخيمات تيندوف. ومن أجل هذا الهدف النبيل تهون كل التضحيات.
إعلان الملك محمد السادس عن الوتيرة القادمة في تسريع تنفيذ الجهوية المتقدمة، بدءا بالأقاليم الجنوبية، يندرج في إطار هذه الاستراتيجية الدفاعية. ذلك أن تحصين آليات التنمية المتوازنة التي يشارك المواطنون في بنائها جزء لا يتجزأ عن المشروع الكبير الذي يهم نقل الأقاليم الجنوبية إلى مستوى متقدم في التدبير المحلي والحكامة وإنهاء ممارسات الريع، ودمج النخب والكفاءات المحلية في غمار الشأن العام. ويرتدي المشروع أهمية قصوى لدى مقابلته بما يحدث على الطرف الآخر، حيث حياة البؤس والقهر والاضطهاد في مخيمات تيندوف. فالهدف الأسمى لهذا التوجه يتجاوز المساحة الجغرافية نحو تأهيل الأقاليم الصحراوية لاستيعاب كافة أبنائها المقيمين والعائدين، بكل كرامة وعزة نفس.
كما ربح المغرب حرب تحصين الأقاليم الجنوبية دفاعا وأمنا، فإن النصر سيظل حليفه في صون هذا الوجود ديمقراطيا وتنمويا ووحدويا، إذ تدق ساعة الحقيقة، ويعود الناس إلى وطنهم طوعيا. غير أن ما يؤسف له حقا أن استخدام ورقة حقوق الإنسان لا ينتبه بل يتغاضى عن الواقع المأساوي هناك. فأي حقوق في ظل حظر التجوال ومنع حق العودة ومحاولات طمس الهوية الوطنية، وتعمد الاتجار بمعاناة المحتجزين قسرا؟
حقوق الأوطان لا تنفصل عن حقوق الإنسان. وأي معنى لوجود الإنسان بلا هوية ولا أوراق ثبوت ولا جنسية ولا عوائل ولا إخوة وأبناء عمومة! المؤكد أنه حين تكون حقوق الأوطان مصانة، فإن ذلك يدفع إلى توسيع رقعة الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية. لذلك فالعبء الأكبر يقع على عاتق دعاة حماية حقوق الإنسان، من أجل رفع الحصار والاضطهاد عن المحتجزين في تيندوف. فيما أن الأوضاع في الأقاليم الجنوبية تنحو في اتجاه تكريس حقوق أوسع وأشمل. وضمنها حق المشاركة في صياغة القرارات المصيرية والمستقبلية التي تعنى بالنهوض بأوضاع السكان. وإن لم تكن الجهود الجبارة التي بذلها المغرب في هذا المجال كافية لإقناع المتاجرين بشعارات الدفاع عن حقوق الإنسان الذين يتعامون عن رؤية الحقائق على الأرض، فلا بديل عن الاستمرار في هذه الجهود. لأن الهدف هو تحصين الوجود المغربي، وليس استجداء تصنيفات المنظمات التي كثيرا ما تتعاطى والملف الحقوقي بخلفيات سياسية وإديولوجية.
لا يهم. فما من قضية عادلة إلا واجهتها أصناف من الحيف وعدم التفهم المغلف بنزعة مناوئة. ومن أراد أن يقيس نبض الشارع المغربي من الصحراء إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب، ما عليه سوى اعتماد المنهج الاستقرائي في إدراك الأثر النفسي والسياسي الذي خلفه خطاب الملك محمد السادس، وهو يتحدث نيابة عن المغاربة في رسم معالم المرحلة وتحديات المستقبل. فالخطاب السياسي لا يقاس بمضمونه وأسبقياته وتطلعاته فقط، و لكن بانبثاقه من عمق المشاعر التي تخالج المواطنين وتدفعهم إلى بذل المزيد من التضحيات. ونحمد الله أن تاريخ المناسبات الوطنية كان دائما ذا صلة بالقيم والمفاهيم التي تذكي روح الوطنية والوفاء لعهد شهداء الحق والواجب. وخصائص البناء الذي لم ينفصل فيه المغرب يوما عن التزاماته الوطنية والإقليمية والعربية والإسلامية. ولن يكون في سجل دعاة التفرقة والتجزئة والبلقنة ما يمكنهم من تخليد ذكريات ملحمة بناءة.
الاعتراف بالنواقص التي شابت المشروع الإنمائي والديمقراطي ليس عيبا. والعيب الحقيقي يكمن في معاكسة الشرعية الوطنية والدولية. كما المسيرة لم تنطلق من فراغ، وإنما من تلاحم حلقات الكفاح بين أجزاء الوطن مدا وجزرا، فإن تحويل رمال الصحراء إلى مدن شامخة جاء بفضل تضحيات المغاربة جنوبا وشمالا وعبر كل الاتجاهات. والنظام الجهوي بدوره لا يعدو أن يكون حلقة جديدة في مسار تكريم الوطن والمواطنين. كونه يفتح باب العودة الطوعية أمام مغاربة تيندوف، وبالقدر ذاته يقدم نموذجا متطورا في آليات تحصين الوطن والمواطنين.
ما ربح المغرب الحرب لكي يتردد في تحديات البناء والوحدة. ولكنه ربحها لصد مناورات الخصوم، وهو اليوم يرفع سلاح التنمية والديمقراطية والمشاركة لربح ما تبقى من المعارك المفتوحة، بكل قوة وإصرار وصلابة.
محمد الأشهب/كاتب و صحفي (من مواليد إقليم تاونات)
عن الكاتب
مواضيع ذات صلة
اكتب تعليق
لابد من تسجيل الدخول لكتابة تعليق.