المقاومة المسلحة بورغة العليا 1912- 1927م-قبيلة مرنيسة بإقليم تاونات نموذجا
عمر فرتوت°-الدارالبيضاء:”تاونات نت”/عرف المغرب بعد توقيعه لمعاهدة الحماية في 30 مارس 1912م، ردود أفعال متباينة، إذ رفض المغاربة هذه المعاهدة من قبل خواصهم وعوامهم، وانطلقت معها شرارة المقاومة التي تعرف عند المؤرخين بأحداث فاس الدامية التي امتدت من 17 أبريل إلى 19 منه؛ هذه الأحداث التي جعلت المستعمر يغزو البلاد ويفرض وجوده بقوة السلاح، ويؤسس بنيات سياسية تعمل على تقسيم المغرب إلى مناطق احتلال مختلفة أو مايعرف عند ليوطي Lyautey(1854-1934م) باسم «المغرب النافع» و«الغير النافع».
وارتأينا في هذه المحاضرة العلمية اختيار موضوع المقاومة المسلحة رغبة منا التعريف بالتاريخ النضالي للمغاربة، الذين وقفوا في وجه المستعمر، خاصة أن هذه المواضيع قد حظيت بإهتمام الباحثين والمؤرخين، ومن هنا يأتي اختيارنا لموضوع «المقاومة المسلحة بورغة العليا (1912-1927م) قبيلة مرنسية كنموذج »، في محاولة منا النبش في خبايا التاريخ الوطني، وصبر أغوار هذه الحقبة الإستعمارية التي أضحت محط إهتمام الباحثين المغاربة.
وتتمثل أهمية الموضوع الذي سنتناوله بالدراسة والتحليل في كونه محاولة لتسليط الضوء على عدد من الجوانب المرتبطة بتاريخ المقاومة المسلحة بمنطقة مرنيسة[1]، والعوامل المساعدة لها، والعناصر التي ساهمت في بروز وتطور فكر المقاومة لدى قبائل المنطقة وزعمائها وكذلك الزوايا، ومساهمة مختلف القبائل في حركات المقاومة؛ علما أن المنطقة التي نتحدث عنها هي منطقة مقصية وفقيرة من كل الجوانب، إلا أن جل ما وجدناه لا يتجاوز حدود بعض الإشارات المتناثرة بين عدد من المصادر التاريخية وعدد من الوثائق المحلية؛ لأن المنطقة المذكورة لم تحظى لحد الساعة لأي دراسة تاريخية مستقلة.
وقد اتبعنا في هذه الدراسة المنهج التاريخي معتمدين أهم المصادر والمراجع في الموضوع، وكما إستعنا ببعض المذكرات لأناس كانوا شهود عيان على الفترة المدروسة، حيث قمت بتقسيم الموضوع إلى محورين:
أولا: المقاومة المسلحة بمرنيسة تحت قيادة الزاوية الخمليشية.
ثانيا: قبيلة مرنيسة ودورها في حركة محمد بن عبد الكريم الخطابي.
أولا: المقاومة المسلحة بمرنيسة تحت قيادة الزاوية الخمليشية
قبل أن نتحدث عن المقاومة وجب التعريف بقبيلة مرنيسة وموقعها الجغرافي إذ تقع هذه القبيلة شمال مدينة فاس وهي أحد القبائل المنتمية لجبالة و تقع أراضيها في أعالي حوض ورغة حيث يحدها من جهة الشرق قبيلتا بني عمارت، وكزناية، ومن جهة الغرب قبيلتا بني ونجل وفناسة، ومن الجنوب قبيلة صنهاجة غدو، وفي الشمال قبيلة بني بشير؛ وقد ساهمت هذه القبيلة في محاربة الوجود الاستعماري على أراضيها بل وحتى على مستوى منطقة الريف بوجه عام، إذ شارك سكان هذه القبيلة في حركة الشريف محمد أمزيان (1859-1912م) تحت قيادة شيخ الزاوية الخمليشية الشريف محمد الخمليشي الكبير الذي كان له دور في تعبئة قبائل الريف الأوسط والغربي بل وحتى في قبائل ورغة؛ وعلى ذكر الزوايا فقد لعبت هذه الأخيرة بالمغرب دورا رياديا في مواجهة المستعمر، وقد ظهر هذا منذ انطلاق عمليات التوغل الفرنسي شمال مدينة فاس. هذا التوسع الذي سرعان ما جعل مدينة تازة تقع تحت الاحتلال الفرنسي في 10ماي 1914م، وقد كانت فرنسا تعتبر تازة نقطة مفصلية وإحدى دعائم عملية التهدئة بالبلاد[2] وأشار مؤرخ الجيش الفرنسي «موني سابين» في كتابه «السلم في المغرب» بخصوص أهمية تازة قائلا: « لقد فتحنا الطريق بين المغرب الشرقي والمغرب نهائيا سنة 1914م وفي شهر مايو توجهت فرقة من سوق أربعاء تيسة إلى واد أمليل وأخرى إستولت على تازة يوم 10 مايو وبعد بضع عمليات في ضفاف إيناون انتهى الأمر نهائيا»[3]، إلا أن هذا الإنتصار لم يفتت من عزائم المقاومة بل نرى أن الجيوش الفرنسية قد وجدت أمامها قبائل ثائرة شمال فاس وأصبحت إشتباكاتها دورية مع قبائل فشتالة والحياينة والتسول ومرنيسة، وقد كانت الأخيرة تقع في منطقة تنتمي جغرافيا لورغة العليا كما أسلفنا بالذكر، وهي منطقة محاذية لمناطق التواجد الإسباني غير أنها كانت محط صراع بين الدولتين الفرنسية والإسبانية، هذا الصراع كان له أسباب تاريخية ومبررات إستراتيجية؛ وقد أشار إلى ذلك ليوطي (1854- 1934م) في إحدى مراسلاته قائلا: «..توقف النشاط[العمليات العسكرية] بسبب المشاكل التي واجهها الإسبان في منطقتهم، مما سمح لنا بتأجيل عملياتنا ومطالبنا بخصوص المناطق المتنازع عليها»[4]، وقد أكد في نفس المراسلة أن الأراضي الموجودة شمال نهر ورغة هي داخل الحدود المعترف لفرنسا من خلال المعاهدات، والتي تمتد إلى تخوم المنطقة الاسبانية، وأن اسبانيا مارست نشاطا سياسيا في تلك المناطق وأنفقت الأموال الكثيرة لتشكيل مايشبه الإمارات الصغيرة والتي يحكمها القواد المحليون والمتحالفون معهم[5].
وقد كان نفوذ الزاوية الخمليشة بصنهاجة السراير يصل إلى حدود قبائل ورغة، خاصة أن السلاطين العلويين كانوا قد أضفوا على الأسرة الخمليشية منذ فترات سابقة بهالة من الاحترام والتوقير، بسبب دعمهم لهم في حركاتهم كحركة الحسن الأول إلى شمال المغرب سنة 1889م، أو كوقوفهم إلى جانب المخزن ضد الدعي بوحمارة، وهذا الاحترام من قبل المخزن جعل القبائل تلتف حول هذه الأسرة عند حملها لمشعل المقاومة ضد المستعمر منذ تغلغله بالمنطقة.
وتعود الإشارات الأولى حول التواجد الخمليشي بمنطقة ورغة إلى سنة 1914م، حيث ظهر الشريف محمد بن الصديق أخمليش إلى جانب محمد الحجامي لما قامت الفيالق الفرنسية بمهاجمة داره، حيث كان هذا الحدث هو الذي ساهم في حضور الخمالشة بمنطقة ورغة.
ومع حلول سنة 1915م استمرت القوات الفرنسية في التقدم، وذلك بغية إخضاع منطقة ورغة العليا بما فيها قبيلة مرنيسة، الشيء الذي جعل أعيان قبائل الريف الأوسط، وقبائل صنهاجة السراير بقيادة الأسرة الخمليشية تتجه إلى دعم الجبهة الجبهة الجنوبية للمقاومة ضد الفرنسيين[6]، وهذا ما حصل، إذ أشارت التقارير الفرنسية لسنة 1915م وصول قبائل ريفية صنهاجية بقيادة الشريف أحمد الخمليشي[7] صاحب زاوية بوغيلب بزرقت الذي قاد قبائل صنهاجة السراير، وقبائل ورغة العليا ضد التوغل الفرنسي بتلك الجبهة مابين 1915-1920م؛ وفي هذا الإطار فقد صرحت التقارير الفرنسية التي تعود لسنة 1916م، أن جبهة ورغة كانت تشكل دائما مصدر قلق للفرنسين، الشيء الذي جعل الإدارة الفرنسية تعيد النظر في سياستها، حيث اكتفت خلال الفترة الممتدة منذ نهاية عام 1916م وإلى حدود عام 1917م، بالإقتصار على الأساليب الدفاعية مع بعض الهجمات الخاطفة، غير أن مع نهاية سنة 1917م عادت فرنسا إلى تكثيف هجماتها بأعالي ورغة، حيث وصلت الفيالق الفرنسية إلى حدود المنطقة الخليفية الاسبانية، وذلك بعد سيطرتها على قبيلتي بني وليد ومتيوة الخاضعتين للنفوذ الديني الخمليشي[8]، وتركيز هجماتها على مرنيسة وذلك بغيت السيطرة عليها. علما أن مرنسية كانت النقطة الحدودية الرئيسة على الطريق الجبلية بين فاس وتاونات وتازة، وأيضا نقطة تماس مع المنطقة الخليفية الإسبانية؛ إلا أن الجيش الفرنسي تكبد هزيمة ساحقة من طرف قوات الشريف أحمد الخمليشي بمرنيسة سنة 1918م، بل أكثر من ذلك فقد تكرر مشهد الهزيمة في نفس السنة في موقعة جبل الكيل بعين مديونة، التي غنم منها المجاهدون العديد من الأسلحة والذخائر[9]، وهذه الأسلحة هي التي سيستعملها محمد بن عبد الكريم الخطابي أثناء حركته بالريف.
وقد حاول الفرنسيون استمالة الشريف أحمد الخمليشي، نظرا لتواجده بأعالي ورغة وإبعاد القبائل الصنهاجية الملتفة حوله: ( ككتامة، وزرقت، وتغزوت، وتارجيست، وبني بشير، وغيرها..) التي كان وجودها داعما قويا لقبائل ورغة العليا، حيث عمدت فرنسا في هذه المناطق الجبلية بالاستنجاد بالزوايا والطرق الصوفية لتقسيم صفوف المجاهدين ولحصر التحركات ذات التطلعات التحريرية في بوثقة الصراع الديني، وكان أهم المتعاونين الذين اعتمدت عليهم فرنسا كثيرا هو الشريف محمد بن المكي الوزاني، وأيضا الشريف عبد الرحمان الدرقاوي[10]، إضافة إلى بعض زعماء القبائل خاصة قائد مرنيسة عمر بن احميدو المرنيسي، الذي ربط علاقات بضباط الاستعلامات، وعمل على نسف حركة المقاومة بمرنسية وباقي القبائل بأعالي ورغة.
وقد شهدت مرحلة 1920-1921م تأجج الصراعات بين قبائل ورغة، التي رفضت دعم حركة الشريف أحمد الخمليشي وسعيها إلى طرده. وكان هذا الموقف راجع إلى الانتصارات التي حققها الزعيم الخمليشي بمعية الشنقيطي، والحجامي، والبقالي، واحميدو الوزاني، وتنامي نفوذ الخمالشة بالمنطقة، وتقلص سلطة أعوان فرنسا خاصة قائد مرنيسة و يمكن تفسير الأمر من ناحية أخرى إلى الصراع حول الزعامة، إذ تبينت رغبة قائد مرنيسة ومعه عبد المالك محي الدين الجزائري الذي ظهر بورغة وخاصة بمرنيسة في تنحية الشريف الخمليشي كي يتسنى لهما السيطرة على المنطقة[11].
وقد استطاع عبد المالك محي الدين تغيير الأمور لصالحه بأعالي ورغة، خاصة بعد تنامي تحركاته على طول الجبهة، حيث كان يحاول دائما إظهار نفسه كزعيم وقائد للمقاومة وذلك بالدخول في اشتباكات مع القوات الفرنسية، ومحاولة إرغام الشريف الخمليشي وأنصاره على التراجع؛ الشيء الذي أدى إلى اصطدام قوات الشريف الخمليشي وأنصار القائد عمر بن احميدو المرنيسي الموالين لفرنسا، نتج عنه استشهاد الزعيم أحمد الخمليشي بمنطقة مشكور من قبيلة متيوة في 5 أبريل 1920م؛ وباستشهاد الخمليشي تكون فرنسا قد قضت على حركة المقاومة بأعالي ورغة[12] إلا أنها لم تكن تضع في حسبانها أنها ستشهد في السنوات الموالية اصطداما أعنف، مع حركة لاتقل شأنا من الحركة الخمليشية وهذه الحركة هي التي قادها محمد بن عبد الكريم الخطابي.
ثانيا: قبيلة مرنيسة ودورها في حركة محمد بن عبد الكريم الخطابي
بعد استشهاد الشريف أحمد الخمليشي في 5 ابريل 1920م وذلك بعد إصطدامه بقوات عمر بن احميدو قائد مرنيسة، قاد حركة المقاومة بالمنطقة الشريف محمد بن علي السليطن شيخ «زاوية إفانسا» الذي عزز الحضور الخمليشي بالجبهة، وتزامن ذلك بظهور حركة محمد بن عبد الكريم الخطابي(1921-1926م) الذي قاد حركة الجهاد بالريف، حيث سينضم الشيخ محمد السليطن إلى حركة الخطابي وسيصبح أحد أهم القادة الميدانيين، أما على مستوى جبهة ورغة فقد استطاعت فرنسا أن تضم أعالي ورغة إلى مناطق الحماية الفرنسية، حيث خضعت قبائل المنطقة للمستعمر والتزمت بتأدية الضريبة على أراضيها والتعهد بحراسة ضواحي ورغة.
وفي خضم هذه الأوضاع كانت الدعاية الذي أطلقها شيخ زاوية بوغيلب حول حركة عبد الكريم الخطابي قد لقيت تجاوبا كبيرا في قبيلة مرنيسة، وقد حاول كل من عمر بن احميدو المرنيسي والشيخ عبد الرحمان الدرقاوي شيخ الزاوية الدرقاوية ببني زروال، ثني الساكنة من الانضمام إلى الثورة إلا أن محاولتهما الهادفة إلى زعزعة الحركة الريفية، قد لقيت فشلا كبيرا، ومما يؤكد لنا مما سبق ماجاء في قول كاتب مذكرات وزير خارجية ابن عبدالكريم الفقيه السكيرج قائلا: «وقد استاء مما كان يصدر من الشريف السيد عبد الرحمان الدرقاوي جميع المجاهدين لما كان موصوفا به عندهم من الصلاح وكثرة أتباعه من طرف طريقته التي تنادي بحي على الفلاح، وقد تأسف من ذلك جميع أهل الزوايا بالقبائل، المذكورة، وعظم الخطب على أهل زاوية الخمالشة بما كان يجريه من هذه الأعمال ونحوها، فكانوا على نية الانتقام منه ومن قبيلته، خصوصا عندما يرد لهم الأمر من الأمير ابن عبد الكريم»[13]. وقد كان الشريف الخمليشي مسموع الكلمة لدى القبائل بأعالي ورغة، وفور انتصار محمد بن عبد الكريم الخطابي في أنوال سنة 1921م، الذي طار صيته بين القبائل، بدأت القبائل تفد عليه في أجدير، وهكذا زاره عام 1922م وفد من القبائل المجاورة للمنطقة الفرنسية، ونقصد هنا قبائل ورغة العليا التي طلبت من الخطابي بأن يقبل انضمامها إلى صفوف المجاهدين وأن يشرفهم بزيارته لتلك القبائل التي لم تخضع بعد لفرنسا قصد تنظيم شؤونها، وفعلا،ﹰ لبى طلبهم، وتوجه إلى ناحية تلك القبائل مصحوبا بألف رجل من المجاهدين ماراﹰ في طريقه على قبيلة بني عمارت ومنها إلى قبيلة مرنيسة ثم بني ونجل ومنها إلى قبيلة فناسة، وكانت القبائل التي يمر بها تتلقى المجاهدين بفرح كبير وحفاوة بالغة وتقدم للمجاهدين المؤونة اللازمة[14].
ويشير الأستاذ عبد الإله الشيخي بخصوص تنظيم القبائل بتلك المناطق في مقاله : «قبائل صنهاجة اسراير قلاع الجهاد والممناعة» إلى أن الخطابي قام بتعيين مجموعة من القادة للإشراف على تنظيم المجاهدين وقيادة المعارك ضد إسبانيا وفرنسا، فعمل على إدخال الإدارة للمنطقة لتسيير جميع شؤونها فأنشأ مقر المحكمة الشرعية بمكان يدعى “تشايف” بتراب قبيلة تاركيست، وحول هذا التنظيم، فقد كان الخطابي يعين على رأس كل محكمة رئيسا من أصل ريفي في الغالب، يسمى كبير المحلة أو الحاكم يبقى على إتصال وثيق مع المحكمة العليا بأجدير، وكان عدد المحاكم التي أنشأها الخطابي أربعا وهي: أخشاب أومغار بتمسمان، ومحكمة بني بوفراح، ومحكمة بني حسان، ومحكمة تاركيست التي عهد إليها بالنظر في شؤون قبائل صنهاجة السراير إضافة إلى قبيلة مرنيسة، وبني عمارت، والجزء الغربي من قبيلة كزناية. وخلال زيارته لمقر المحكمة التي كان يسيرها القائد عمر بن علوش الورياغلي قام بتنصيب وتتبيث عمر بن احميدو المرنيسي قائدا على قبيلة مرنيسة[15].
وكما كان معروفا على عمر بن احميدو المرنيسي الغدر واقتناص الفرص فقد خطط هو وعبد المالك محي الدين الجزائري لإغتيال محمد بن عبد الكريم الخطابي، هذا الأخير الذي كان مستقرا بقبيلة مرنيسة وبالضبط بزاوية الولي الصالح سيدي علي بن داود، غير أن هذه المؤامرة أفتضح أمرها ودارت بعدها معارك بين قوات الخطابي وأتباع قائد مرنيسة على الحدود الفاصلة بين قبيلة بني عمارت، وقبيلة مرنيسة، سقط فيها قتلى من الجانبين[16].
وقد تواصلت المعارك بين عمر بن حميدو والخطابي الذي كان يعمل في الخفاء للقضاء على قائد قبيلة مرنيسة، وبعد ثلاثة أشهر عن المعركة تمكن الخطابي من هزمه ما أرغمه على الفرار بجميع عائلته إلى المنطقة الفرنسية حيث أعطى ليوطي أوامر باستقبال القائد المطرود وبإبقائه بعيدا عن الجبهة، فاستراحت من تشويشه القبائل وانضمت جميعها إلى صف المجاهدين[17].
وعلاقة بالأوضاع في الشمال الأعلى داخل منطقة ورغة والتي كانت متوثرة، ففي 18 فبراير 1924م راسل ليوطي رئيس الحكومة ورئيس الشؤون الخارجية بباريس السيد بوانكاري Poincaré (1860-1934م) يخبره بما آلت إليه الأوضاع في ورغة العليا، وقد أورد في رسالته هاته قائلا: «لقد أرسل عبد الكريم قواته إلى ورغة العليا للسيطرة على الأوضاع بعد انتصاره النهائي على عمر بن حميدو ونهب وحرق منازله والقرى المجاورة لقريته وتسيطر المحلات الريفية على مجموع شمال مرنيسة»؛ وتؤكد هذه المراسلة تؤكد على أن الأمير قد أذعنت له سائر القبائل بشمال مرنيسة، والقبائل المحاذية لورغة الوسطى ويضيف ليوطي في نفس الرسالة : « إن عبد الكريم هيمن تماما على الوادي الأعلى لنهر ورغة وأن أية قبيلة لن تستطيع مقاومته بعد هزيمة مرنيسة وكزناية المتمردتين داخل منطقتنا وأؤكد على أن الوضع خطير على فرنسا وجد معقد. وأشير إلى أن جبهة ورغة إذا أرادنا أن نكسبها لابد من السيطرة على المناطق المطلة على الضفة اليمنى لورغة الوسطى»[18].
وقد كانت هناك محاولات من قبل عملاء فرنسا للتشويش على المنطقة المتوثرة، ففي مطلع عام 1924م، قام ابن القائد المذبوح بمهاجمة الممثلين الريفيين في أوساط قبيلة مرنيسة، هذا الأخير الذي حل بمرنيسة في جماعة وأراد الاستقرار بالمنطقة مدعيا[ استنادا إلى ماورد في رسالة ليوطي إلى وزير الشؤون الخارجية السيد أريستيد بريان Aristide Briand والمؤرخة بتاريخ 20 يونيو 1925] التي يشير فيها إلى أنه قد قدم بإسم المخزن الشريف و الحكومة الحامية بحجة أن هذه القبائل قد طلبت الخضوع للمخزن[19].
وفي أواخر دجنبر 1924م، قام محمد بن عبد الكريم الخطابي بإستدعاء أعيان وكبار منطقة ورغة العليا إلى أجدير، واستمر في تجنيد المقاتلين من قبائل بني مستارة، وصنهاجة غدو، ومرنيسة، بهدف مقاتلة الاسبان[20].
وبخصوص المجندين من القبائل وخاصة من قبيلة مرنيسة، فقد كان الخطابي يستعملهم ويجندهم للقتال داخل أراضيهم، حتى يدافعوا عنها بضراوة، وهذا التكتيك الحربي كان يوظفه الزعيم مع جميع محاربي القبائل المنضوية تحت لوائه، وهو ما أقر به الجنرال سيرينيي قائلا: « وإجمالا فإننا لا نقاتل ريفيين بحصر المعنى، وإنما نحارب قبائل، كانت بالأمس خاضعة لنا، وأصبحت اليوم منشقة عنا، أرسلها الريفيون للتصدي لنا ومواجهتنا»[21]، موضحا أن هذه «العصابات المنشقة» كانت تستعمل أساليب تكتيكية بسيطة، ولكنها كانت تجيد استعمال مجالها، وتحفر الخنادق والملاجئ للإحتماء من مفعول المدفعية الفرنسية، وتبرهن على بسالة كبيرة وتصمد في مواقعها حتى عند تعرضها للهجوم، وتتقن استعمال القنابل اليدوية أثناء القتال عن قرب.
وما أن حل عام 1925م، حتى دخلت الجبهة الشمالية للمنطقة الفرنسية في صراع محتدم مع القوات الريفية، ففي نهاية أبريل من نفس السنة تمردت قبائل منطقة ورغة العليا ضد السيطرة الفرنسية[22]، وردا على ذلك عقدت فرنسا مؤتمرا مع إسبانيا استمر مابين 17 يونيو و 25 من يوليوز من نفس السنة، تم الاتفاق فيه على مراقبة وردع تهريب الأسلحة برا وبحرا وعلى التعاون العسكري، وعدم إبرام معاهدة بشكل منفرد والقبول بتسوية مؤقتة إلى حين التوصل عبر اتفاق مشترك إلى طريقة لتقسيم القبائل الواقعة شمال ورغة[23]، وعقب ذلك أجرى الماريشال هنري فليب بيتان Pétain (1856-1951م) في 28 يوليوز بتطوان محادثات مع القائد العام الإسباني بريمو دي ريبيراPrimo de Rivera (1870-1931م) وقد التقاه مرة أخرى بالجزيرة الخضراء بتاريخ 21 غشت للتنسيق بشأن القيام بعملية عسكرية مشتركة ضد الخطابي.
وبعد اتفاق الجزيرة الخضراء، نفذ الجيشان الفرنسي والإسباني خطة الهجوم في المناطق التي يسطر عليها المجاهدون، فتم الإنزال الاسباني في خليج الحسيمة، وفيما تقدمت من الجنوب القوات الفرنسية بقيادة الجنرال إدموند بواشوEdmond Poichou الذي كان يطبق تعليمات الماريشال بيتان Pétain، وفي غضون ذلك عمدت فرنسا إلى استقطاب واستمالة القبائل المتاخمة للمنطقة التي توغل فيها العسكر الفرنسي خلال فصل الخريف، وكان من بينها قبيلة مرنيسة التي قدمت بزعامة كبيرها عمر بن احميدو خدمات هامة للفرنسيين ومكنت القوات الفرنسية المتقدمة من مواقع تمتد غربا إلى البرابر القاعدة الهجومية بالناظور[منطقة استراتجية شمال مركز طهر السوق] في المنطقة الفرنسية[24].
وبعد انضمام قبيلتي صنهاجة ومرنيسة إلى الصف الفرنسي، أصبحت للفيالق الفرنسية إمكانية للإنطلاق من ورغة العليا نحو كرط الأعلى[25]وخنق المقاومة التي اضطرت إلى الاستسلام بعد احتلال القوات الفرنسية لجبل الحمام وتارجيست. واستسلام الخطابي في 27 ماي سنة 1926م.
غير أن إستسلام الخطابي لم يوقف حركة المقاومة بالريف، إذ كان العديد من قادة المقاومة لايزالون يقاتلون على جبهات مختلفة وخاصة الشريف محمد بن علي السليطن[26] ، الذي كان آخر من استسلم ووضع السلاح في 8 يونيو 1927م، وباستسلامه تم الإعلان عن نهاية حرب الريف وتحول المنطقة بما فيها مرنيسة من مرحلة المقاومة المسلحة إلى بروز إرهاصات لشكل جديد من النضال الذي أخذ طابعا سياسيا طيلة الثلاثينيات والأربعينيات.
خاتمة
قصارى القول، إن أهم الخلاصات التي خرجنا بها من هذا الموضوع تتمثل في كون قبائل ورغة العليا قد شكلت مع القبائل المجاورة وأعني هنا قبائل صنهاجة السراير وحدة منسجمة التي تعززت بفعل القرب الجغرافي، وتكامل الخصائص الطبيعية والتاريخية المشتركة، وهذه الوحدة التي ستبرز بفعل حضور قبائل المنطقة بما فيها قبيلة مرنيسة على مختلف الجبهات، وتحت قيادة محلية متمثلة في شيوخ الزاوية الخمليشية، الذين أعطوا درسا في الجهاد والنضال واستمر حضورهم مع حركة محمد بن عبد الكريم الخطابي هذا التلاحم الذي عبرت عليه قبائل أعالي ورغة جعلت المستعمر الفرنسي يحاول جاهداﹰ تضيق الخناق على المقاومة بالمنطقة بمساعدة بعض العملاء، الذي فضلوا الارتماء في أحضانه كشريف الزاوية الدرقاوية، وزعيم مرنسية القائد عمر بن احميدو المرنيسي، إلا أن هذه المساعي لم تكن لتنجح لولا تحالف الفرنسيين مع الاسبان لإجتثاث جذور الثورة.
البيبليوغرافيا:
- أحمد سكيرج، الظل الوريف في محاربة الريف، دراسة وتحقيق: رشيد يشوتي، تقديم: حسن الفيكيكي، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي، الرباط، 2010م.
- محمد محمد عمر بلقاضي، أسد الريف محمد عبدالكريم الخطابي مذكرات عن حرب الريف، مطبعة سلمى، الرباط، الطبعة الثانية، 2006م.
- ياسين جواد،اتحادية قبائل صنهاجة السراير والمقاومة المسلحة بالريف 1909-1927م، المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، دار أبي رقراق للطباعة والنشر،الرباط، الطبعة الأولى ، 2016م.
- عبد الإله الشيخي، «قبائل صنهاجة اسراير قلاع الجهاد والممانعة»، مجلة تدغين للأبحاث الامازيغية والتنمية، العدد الأول، 2013م.
- ليوطي الافريقي، نصوص ورسائل حول الثورة الريفية 1924- 1925م، ترجمة وتقديم، عز الدين الخطابي، منشورات تيفراز ن اء ريف، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2013م.
[1] – مرنيسة: قبيلة تقع شمال المغرب ومركزها مدينة طهر السوق التابعة إداريا لعمالة مدينة تاونات والتابعة لجهة فاس مكناس.
[2] – عبد السلام انويكة، أعالي إيناون في المشروع الاستعماري الفرنسي بالمغرب1914- 1926، المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، دار أبي رقراق للطباعة والنشر،الرباط، الطبعة الأولى 2017م، ص.203.
[3] – مصطفى العلوي، الحرب المغربية الفرنسية الإسبانية 1906-1936، الجزء الرابع، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء، الطبعة الأولى، 1415/1994، ص.263.
[4] – ليوطي الافريقي، نصوص ورسائل حول الثورة الريفية 1924- 1925، ترجمة وتقديم، عز الدين الخطابي، منشورات تيفراز ن اء ريف، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2013م، ص 21.
[5] – نفسه، ص 21.
[6] – ياسين جواد،اتحادية قبائل صنهاجة السراير والمقاومة المسلحة بالريف 1909-1927م، المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، دار أبي رقراق للطباعة والنشر،الرباط، الطبعة الأولى 2016، ص.109.
[7] – نفسه، ص.111.
[8] – نفسه، ص.112.
[9] – عبد الإله الشيخي، «قبائل صنهاجة اسراير قلاع الجهاد والممانعة»، مجلة تدغين للأبحاث الامازيغية والتنمية، العدد الأول، 2013م، ص.14.
[10] – مصطفى العلوي، الحرب المغربية الفرنسية الإسبانية 1906-1936، ص. 279.
[11] – ياسين جواد،اتحادية قبائل صنهاجة السراير والمقاومة المسلحة بالريف 1909-1927م، ص.122.
[12] – نفسه، ص.123.
[13] – أحمد سكيرج، الظل الوريف في محاربة الريف، دراسة وتحقيق: رشيد يشوتي، تقديم: حسن الفيكيكي، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي، الرباط، 2010م، ص.211.
[14] – محمد محمد عمر بلقاضي، أسد الريف محمد عبدالكريم الخطابي مذكرات عن حرب الريف، مطبعة سلمى، الرباط، الطبعة الثانية، 2006م، ص.130.
[15] – عبد الإله الشيخي، «قبائل صنهاجة اسراير قلاع الجهاد والممانعة»، ص.14.
[16] – محمد محمد عمر بلقاضي، أسد الريف محمد عبدالكريم الخطابي مذكرات عن حرب الريف، ص.131.
[17] – نفسه، ص.132.
[18] – ليوطي الافريقي، نصوص ورسائل حول الثورة الريفية 1924- 1925، ص.23-25.
[19] – ليوطي الافريقي، نصوص ورسائل حول الثورة الريفية 1924- 1925، ص.102.
[20] – نفسه، ص.281.
[21] – ماريا روسا ذي مادارياكا، محمد بن عبد الكريم الخطابي والكفاح من أجل الاستقلال، ص297.
[22] – نفسه، ص.296.
[23] – نفسه، ص.304.
[24] – ماريا روسا ذي مادارياكا، محمد بن عبد الكريم الخطابي والكفاح من أجل الاستقلال، ص.308.
[25] – نفسه، ص.309.
[26] – ياسين جواد،اتحادية قبائل صنهاجة السراير والمقاومة المسلحة بالريف 1909-1927م، ص.145.
° ذ.عمر فرتوت: من مواليد مرنيسة بإقليم تاونات -باحث في التاريخ المحلي- الدارالبيضاء.