المغرب والحرب الروسية-الأوكرانية/الأطلسية
بقلم الأستاذ بوزيد عزوزي°-تاونات:”تاونات نت”/-
تقديم
خلال تناولي وجبة العشاء بين أحضان أسرتي مساء يوم الجمعة 18 مارس 2022 ، كنا نتجاذب أطراف الحديث عن مواضيع الساعة الوطنية منها والجهوية والدولية خصوصا الحرب الروسية على أكرانيا …
سألني ابني : “لمن يميل عطفك في هاته الحرب يا أبي ؟” كان جوابي : ” السياسة مصالح وليست عواطف … وأنا مع عدم التبعية وعدم الإنحياز واحترام سيادة الدول ، قيمي لا تتغير فأينما كانت مصالح وطني تجدني ، وأنا مع قيم الحق والعدل وكرامة الأمم“.
أجبت أبنائي وأنا أقول في قرارة نفسي : “هل من الصعب التمييز بين الحق والظلم ؟ هل من الصعب تحديد مكمن العدل وتشخيص محتواه في فضاء معين ؟“
في أعماق صدري أتمنى لو أن الحرب الروسية-الأكرانية توقفت في الحين ، وأتسائل : أفشلت الديبلوماسية إلى هذا الحد أم أن هناك معطيات تجاوزت قدرتها على إمكانية حقن الدماء وحياة المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ وحاملي شعار الأمن ومحبي السلام ؟
للحرب الروسية-الأكرانية/الأطلسية ما بعدها من وقع قوي ومصيري على كافة الدول والشعوب ، إذ أنه بدأ يظهر جليا لكل متتبع وملاحظ ، أن تشكلا جديدا للجغرافيا-السياسية بدأ يرتسم بوضوح شديد في الأفق … قد يكون منظورا .
فمن التصويت بمجلس الأمن الدولي إلى التصويت بالجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة مرورا بالمكالمات الهاتفية بين رؤساء الدول الفاعلة ، يتبين أن الملامح الأولى لموازين القوى الجديدة على المستوى الدولي بدأت ترتسم تدريجيا .
كل حركة سياسية كانت أو عسكرية تدعو إلى وضع سيناريوهات وفرضيات تمكن الملاحظ والمتتبع من الخروج باستنباطات واستنتاجات تغني صندوف التخمينات الذي قد يساهم في تنوير طريق المقرر السياسي وإنارة الطريق لرجال المال والأعمال .
يتسائل السواد الأعظم من الناس عن حيثيات الحرب الطاحنة على الأرض الأكرانية وعن مئآلاتها وفرضيات مخارجها على المستوى الدولي .
هاته الحرب وإن كانت ظاهريا بين روسيا وأكرانيا فهي في حقيقة الأمر بين روسيا والولايات المتحدة بمعية الحلف الأطلسي-ناطو NATO – OTAN.
إن السلم والأمن الدوليين في مهب الريح على ضوء مسار هاته الحرب العالية الخطورة
مما سيدعو حتما عددا من الدول إلى مراجعة سياستها الخارجية وإعادة النظر في استراتيجيتها السياسية والاقتصادية داخل دائرة حركية الجدلية الديبلوماسية .
إشكالية كبيرة تطرح أمام قادة عدة دول خصوصا المنضوية في دائرة العالم الثالث والتي تتطلب تفكيرا متوازنا :
• لمن الأسبقية : هل للإختيارات السياسية أم للمصالح المالية والإقتصادية أم يجب إيجاد معادلة تجمع بينهما ؟
توطئة
وحتى لا نحلل “بمنهج ساذج” تجدر الإشارة ، وربما يجب الإفصاح عن واقع غير معلن ، وهو أن :
– من وراء أكرانيا الحلف الأطلسي OTAN بملايير الدولارات وأسلحته القوية ووسائل إعلامه المغطية للفضاء الواسع الفسيح في كل القارات ،
– ومع روسيا هناك الصين بقوة اقتصادها وعدد سكانها المليار ونصف وعدد من الدول التي منها من صرحت بتعاطفها المصلحي معها ومنها من تختبيء وراء الستار حتى تأتي الفرصة السانحة للإعلان عن انحيازها .
بالموازاة مع الحرب العسكرية المدمرة القائمة ، هناك حرب قاسية وهي الحرب المالية-الإقتصادية وذلك لأن الحلف الأطلسي يرى في حرب عسكرية مفتوحة مع روسيا ، فرضية اندلاع حرب عالمية ثالثة تدخل كل القوى في المنازلة على الساحة الدولية ، إذ لن تنحصر على أرض أوربا وأميركا الشمالية فحسب بل ستنتشر بسرعة إلى إفريقيا وأميركا اللاتنية وآسيا الجنوبية والمحيط الهادي والقطب الشمالي ثم تغطي كافة الكرة الأرضية .
كل المسؤلين السياسيين والعسكريين يعلمون أن العالم على كف عفريت وأن البشرية أصبحت في دائرة ضيقة المسافة بين السلم والحرب .
لقد قامت حروب وانقلابات عسكرية عديدة في جميع أرجاء الأرض بالهند-الصينية/الڤيتنام وكوريا والشيلي واليونان وجزر المالوين-الأرجنتين/ابريطانيا وكاشمير/الهند-پاكستان وأفغانستان ويوغزلاڤيا والعراق وسوريا وليبيا واليمن … وكانت دائما ، إما مباشرة أو بالوكالة ، فكانت تأتي على عدد كبير من الأرواح البشرية من عسكريين ومدنيين أطفالا ونساء وشيوخا بالأسلحة التقليدية ما دامت أنها كانت من أجل بسط النفوذ السياسي والجغرافي وبالتالي الإستراتيجي .
1. منعرج خطير جدا
ما أصبح يقينا اليوم هو أن العالم دخل منعرجا جديدا غاية في الخطورة ، قد تكون :
–ا. “نتيجته الأخطر” ، لا قدر الله ، هو اشتعال “حرب ذرية نووية” وهي فرضية واردة بمجرد صدور “سوء تقييم” استراتيجي سياسي او عسكري أو نتيجة “لتدحرج الكرة الثلجية” السياسية والعسكرية بسبب تعنت طرف من الطرفين المتصارعين أو تصلب نزعة الغلبة لإقصاء الآخر أو إنهاكه أو القضاء عليه .
– ب. “نتيجة إيجابية سلمية” بميلاد نظام عالمي جديد تولد هياكله انطلاقا مما هو ظاهر حتى الآن :
• ا. بدء بإعادة هيكلة مؤسسات هيئة الأمم المتحدة وكل المؤسسات الدولية والجهوية والقارية ( انظر كتابي باللغة الفرنسية صفحة 225-228 حول “كوڤيد. 19 مولد نظام عالمي جديد – حالة : المغرب” ) ،
•ب. وانتهاء يإعادة تسطير حدود عدد من الدول على رأسها دول القارة العجوز ، استجابة لأمل عميق ينخر أحشاء روسيا ما بعد شهر دجنبر 1991 وتشتت الإتحاد السوڤياتي .
في انتظار ما سيحصل ، انفجرت أزمة اقتصادية-مالية كبيرة جدا تهدد العالم بأسره على مستوى التحويلات والإستثمارات والتجارة الدولية والإستهلاك فارتفعت الفواتير التي يؤديها المستهلك بنسبة 54% خلال شهر فبراير 2022 في الطاقة ومواد التغذية بعدد من الدول الأوربية نتيجة نسبة التضخم العالي جدا وذلك على إثر ارتفاع ثمن المتر المكعب للغاز وثمن برميل النفط البرينت والخام لمستويات عالية جدا ستقلب حتما كل الموازين الإقتصادية وما سيليها من تقلبات سياسية واجتماعية ويتبعها من توازنات عسكرية جديدة وأبعادها الإستراتيجية .
ومن ارتدادات العقوبات ضهور اختلالات في التوازنات المالية والإقتصادية من بينها ارتفاع الأسعار والتضخم بالدول الأوربية والولايات المتحدة الأميركية وكندا وأستراليا واليابان وتهديد عدد كبير من دول العالم الثالث بنفس هاته الاختلالات مع ظهور المجاعة والأوبئة في ظل الأزمة الأكرانية وقد بدأت هاته الاختلالات بارتفاع لتر المحروقات بمحطات التوزيع وانتهاء بمواد التغذية والمنتجات الإستهلاكية في الأسواق الكبرى المغطاة منها والمفتوحة.
أتوقع شخصيا انحدار قيمة العملتين الغربيتين الأميركية الدولار والأوربية اليورو وانزلاقهما إلى حافة الإندثار بعد ما نزل سوط الغرب على الإقتصاد الروسي عن طريق العقوبات القاتلة والتي دفعت “مجموعة دول الشرق” إلى ابتكار وسائل مالية تمكنهم من متابعة التبادل التجاري عبر :
. عملاتهم الوطنية من الروبل الروسي إلى اليوآن الصيني مرورا بالروپية الهندية ،
. أو عبر العملات الرقمية العديدة المتعددة من بيت-كوين إلى إيذروم مرورا بليت-كوين وليبرا وريپل الخ
كما أتوقع أن يعود الإقتصاد العالمي إلى :
. حقبة ما قبل بروتن-وودس سنة 1944 ،
. والتغيرات العميقة لسنة 1970 وربط الدولار بالذهب ،
. قبل ابتكار نظام مالي عالمي جديد كما هو موضوع بميثاق “مجموعة بريكس” .
2. تموقع المغرب في هاته الحرب الخطيرة
أسجل باعتزاز كبير أن المغرب يدبر هاته المرحلة بذكاء وحنكة وتبصر إذ يخطو بحذر ولباقة إن على المستوى الدبلماسي أو السياسي أو الإقتصادي أو الإجتماعي .
كدولة نامية وناشئة ، سبق وان اقترحت في مقالات سابقة لي أن تبقى بلادنا على نفس المسافة من القوات المتصارعة على المستوى الدولي ، واقترحت أن نكون من المنحازين إلى “عدم الإنحياز” كمرجعية إلى محتوى اتفاقية باندونغ خلال أبريل 1955 بجزيرة جاڤا الأندنوسية .
وذلك ما كان وفعل يوم الأربعاء 02 مارس بالجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة حين تغيب عن المشاركة في التصويت .
هذا التموقع يجعلنا في موقف قوة تجاه حلفائنا الإقتصاديين الغربيين دون أن نجعل شركائنا الشرقيين يتوجسون من اتفاقاتنا الإستراتيجية والمالية والإقتصادية والتقنية مع أصدقائنا الغربيين .
هذا في تقديري موقف حليم راجح يجعلنا نتعاطا مع كلا الطرفين بتعقل وتروي قد يجعلنا ، ولما لا ، نلعب دورا سياسيا ذو بعد استراتيجي للتقريب بين وجهات نظر الطرفين بطريقة دبلماسية مباشرة أوغير مباشرة ، ولو أن هاته الفرضية قد تبقى بعيدة عن الواقع الوضعي .
فإذا كان المغرب تقليديا مصنف كدولة تابعة للإقتصاد الغربي ، ما دام أنه اختار الإقتصاد الحر عن طريق اقتصاد السوق ، فإن مصالحنا كانت دائما تجنح بنا إلى إقامة اتفاقيات شراكة مع عدد كبير من الدول الفاعلة والمؤثرة على الساحة الدولية وعلى رأسها روسيا والصين والهند أي تقريبا نصف سكان العالم .
وفعلا فإن المغرب تربطه أعداد كبيرة من الإتفاقيات مع روسيا تجعله في منأ عن الصراعات .
وهكذا في إطار الزيارة الرسمية لجلالك الملك سيدي محمد السادس حفظه الله لدولة روسيا الإتحادية من 15 إلى 16 مارس 2016 تم إمضاء مجموعة كبيرة من اتفاقيات التعاون ومذكرات التفاهم في عدد من القطاعات :
ا. لا الإتفاقيات :
-1. الإتفاقية الأولى تهم التسليم المتبادل للأشخاص المتابعين قانونيا ،
-2. الإتفاقية الثانية تهم مصالح الطيران ،
-3. الإتفاقية الثالثة تهم التعاون في ميادين حماية البيئة وترشيد الموارد الطبيعية ،
-4. الإتفاقية الرابعة تهم التعاون في قطاع الصيد البحري ،
-5. الإتفاقية الخامسة تهم إنعاش وحماية الإستثمارات المتبادلة ،
-6. الإتفاقية السادسة تهم الحماية المتبادلة الخاصة بالميدان العسكري-التقني ،
-7. الإتفاقية السابعة تصريح مغربي-روسي للحماية من الإرهاب الدولي .
ب. مذكرات التفاهم :
– التعاون في ميدان الطاقة ،
– التعاون في البحث الجيولوجي والتنقيب في باطن الأرض ،
– التعاون بين المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية-وزارة الفلاحة ، والوكالة الفدرالية للحراسة البيطرية والصحة النباتية .
– برنامج أعمال مشتركة تمتد على سنوات 216-2018 في قطاع السياحة ،
– مذكرة تفاهم حول التعاون بين وزارة الأحباس والشؤون الإسلامية والمنظمة الدينية المركزية لمجلس الشورى لمفتي روسيا ،
– اتفاقية-إطار بين المؤسسة الوطنية للمتاحف ومتاحف الكرملين بموسكو ،
– اتفاقية-إطار بين المؤسسة الوطنية للمتاحف ومتحف الإرميطاج لفدرالية روسيا ،
– بروطوكول تبادل المعلومات المتعلقة بحركة الأشخاص والسيارات بين المغرب وفدرالية روسيا ( المسلك الأخضر).
يظهر جليا من هاته الإتفاقيات ومذكرات التفاهم أن شراكة استراتيجية معمقة أصبحت قائمة بين المملكة المغربية وجمهورية فدرالية الآتحاد الروسي .
هدف هاته الشراكة المساهمة في السلم والإستقرار الجهوي والدولي والعمل على حماية المصالح الإستراتيجية للبلدين في إطار التضامن والتشاور والمحافظة على الوحدة الترابية للبلدين وتعزيز وحدتهما الترابية وتنمية عمليات التعاون والشراكة على مجموع ترابهما .
هاته الشراكة الإستراتيجية المغربية-الروسية المتبوعة بالمواقف السياسية والدبلماسية المحسوبة بذكاء وحكمة تجعلنا في حماية من التهديدات والأخطار المحتملة .
3. تذكير تاريخي وتشخيص لواقع الحال
تعيش البشرية جمعاء مرحلة تاريخية حاسمة بداية هذا القرن المصيري ، القرن الواحد والعشرون ، في تطور سريع متسارع للهياكل السياسية والإقتصادية والعسكرية والإجتماعية العالمية على كافة الأصعدة المحلية والإقليمية والجهوية والدولية.
بعد أن استمرت الدول العظمى ، بعد مؤتمر يالطا بشبه جزيرة القرم من 04 إلى 11 فبراير 1945 ، وانتهاء الحرب العالمية الثانية في 02 شتنبر 1945 ، استمرت في “هدنة ترقبية” حتى انهيار جدار برلين في شهر نونبر 1989 تبعها تبخر الإتحاد السوڤياتي خلال شهر دجنبر 1991 .
خلال هاته المرحلة من الحرب الباردة لمدة تقارب نصف قرن ، دخلت هاته القوى السياسية والعسكرية العالمية في “مرحلة هيمنة دول الغرب” على العالم من 1989 حتى سنة 2009 التي عرفت عودة بروز إشهار الڤيتو الروسي ثم الصيني في مجلس الأمن بهيئة الأمم المتحدة .
انطلاقا من 2009 ، عادت موازين القوى الدولية إلى التأرجح بين “سياسة الهيمنة ” و “لعبة اليد الحديدية ولي الأذرع” حتى 2018 حين قفز الرئيس الروسي ڤلاديمير بوتين للواجهة وقدم للعالم بأسره ، بصيغة التخويف والتهديد المبطن والغير المعلن ، صنوف وأنواع الأسلحة المدمرة النووية واللازرية وسابقات سرعة الصوت : الفرط صوتية وغيرها التي ابتكرها الباحثون الروس واخترعها علماؤهم وصنعتها معاملهم .
لقد فاجىء الرئيس الروسي العالم بأسره بهاته الأسلحة ، معلنا عودة النمرود الروسي المتكيء على مؤهلاته الطبيعية والعلمية ومتأبطا شراكته مع الإقتصاد الصيني في إطار دول مجموعة بريكس BRICS ومجموعة شنغهاي SHANGAÏ إلى الواجهة في مواجهة الغرب المكون من الولايات المتحدة الأميركية وكندا ودول المجموعة الأوربية والمملكة المتحدة وأستراليا واليابان ونيو-زيلندا .
في هذا الإطار العام عادت دول العالم إلى الإنقسام بين محورين غربي وشرقي .
وهكذا صوتت واعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الاربعاء 02 مارس 2022 قرارا يندد فيه بالعدوان العسكري لروسيا على أكرانيا ويطالب من خلاله إخراج قواته العسكرية من الأراضي الأكرانية ب186 صوتا = 141 مع + 40 امتناع و غياب + 5 ضد ، وهنا نتسائل : ما هو وزن هذا التصويت من المنظور القرار السياسي الدولي ؟
هذا التصويت ، وإن كان واضحا جدا ، لم يكن واضحا بما فيه الكفاية من المنظور السياسي لما للتدابير من الأهمية الكواليسية النشيطة منها والضغوط على الحكومات وغيرها بما فيها التهديدات لتوجيه التصويت ، نظرا لمرحلة المسلسل السياسي في العلاقات الدولية الوضعية .
في هذا الفضاء السياسي العام كانت روسيا قد دخلت إلى أكرانيا صباح يوم الخميس 24 فبراير 2022 حين صرح رئيس روسيا : “لم يتركوا لنا ببساطة أي طريق أخرى للدفاع عن روسيا وشعبنا إلا تلك التي سنضطر لاستخدامها اليوم “.
وفي فجر ذلك اليوم دخلت روسيا أرض أكرانيا عبر دونباس من خلال لوگانسك ودونيتسك ، اللتان أصبحتا جمهوريتان معترف بهما من طرف موسكو يومين من قبل ، بعد أن كانت قد طالبت وألحت موسكو على الدول الغربية بتقديم “ضمانات أمنية سياسية” بما فيها توقف ناطو في حدود دول بولونيا وسلوڤاكيا وهنغاريا ورومانيا وملداڤيا بعد أن لم يتم احترام تصاريح مسؤولين غربيين خلال 1997 بعدم توسعة جغرافيا ناطو حسب اتفاقية يالطا في فبراير 1945 .
4. حيثيات غزو روسيا لأكرانيا وارتداداتها ومخلفاتها
تقول روسيا أن ناطو قام منذ تفتت الإتحاد السوڤياتي بعدد من العمليات السياسية والعسكرية ذات الأبعاد الإستراتيجية التي كانت تبحث عن إضعاف روسيا من أهمها :
– توسيع الجغرافيا الترابية للإتحاد الأوربي وإدماج دول شرق أوربا التي كانت تابعة للمعسكر الشرقي منذ 1945 وهكذا أصبح الاتحاد موسعا ل27 دولة بعد انسحاب المملكة المتحدة: بريكست .
– توسيع حلف ناطو لعدد من الدول الأوربية الشرقية التي كانت في دائرة حلف وارسو : 14 ماي 1955 – 01 يوليوز 1991 Pacte de Varsovie.
– تهجم واجتياح ناطو لعدد من الدول : العراق وليبيا كمثال بدون صدور أي قرار من مجلس الأمن الدولي لهيئة الأمم المتحدة وإشعال عدد من التوترات بالخليج العربي وشمال العراق/دولة للأكراد وتهديد أمن أميركا الجنوبية بموجب قرار اتخذ سنة 1822 من طرف الرئيس الأميركي جيمس منرو آنذاك – مبدأ منرو 1817 -(1822) 1825 – الخ
Doctrine James MONROE .
– تطويق حلف ناطو لحدود روسيا بالقواعد العسكرية والصواريخ البالستية وپاطريوط الخ بدول أوربا الغربية وأوربا الشرقية ودول البلطيق والقطب الشمالي واليابان وكوريا الجنوبية وأسترايا ونيو-زيلاندا ،
– إجراء حلف ناطو مناورات عسكرية بالمحيط الهادي والمحيط الهندي – تهديد مبطن للصين وإيران وحتى الهند – والبحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود أي مباشرة بمدخل باب البيت الروسي ،
مباشرة بعد ما اعتبره “العالم الشرقي” تهديد له قام بنفس المناورات بنفس الفضاءات ، كلها او بعضها ، وأكدها الروس على انفراد بالجغرافيا المتاخمة لهم خصوصا بالبحر الأسود وبحر بيرينغ حيث ، للإشارة حذر الروس الغواصة الأميركية المختبئة بأعماق هذا البحر بالإبتعاد عن جزر الكوريل وشبه جزيرة ساخالين وكامشاتكا بتقنية لم يتم التعرف عليها بعد ؛ فكان أن قررت الغواصة مغادرة عمق بحر بيرينغ إلى المحيط الهادي على عجل مباشرة بعد الإنذار الثالث .
بالموازاة أصبحت كل دول العالم مهددة بارتدادات العقوبات القاسية الموجهة لروسيا على المستوى السياسي والإقتصادي والمالي والإجتماعي من طرف المعسكر الغربي .
في هذا الخضم سرعان ما ظهرت عقوبات ذات بعد سياسي موجهة للولايات المتحدة الأميريكية وكندا من طرف روسيا ستتبعها حتما عقوبات اقتصادية ضد الدول الغربية الأخرى خصوصا الأوربية.
5. العقوبات :
–ا. عقوبات المعسكر الغربي ضد روسيا :
–العقوبات الإقتصادية : تكتلت الدول الغربية فأنزلت عقوبات ذات ثقل كبير جدا إذ قررت رفض شراء الطاقة من غاز ونفط ومعادن وكذلك عدد من مواد التغذية من روسيا ،
– العقوبات المالية : تم قطع التواصل لروسيا مع نظام سويفت Swift من أجل قطع جميع العمليات المالية التحويلية بين المصارف والأبناك مع كل الدول وتجميد الإستثمارات في قطاع الطاقة.
– العقوبات الإتصالاتية والإجتماعية : قطع التواصل التلڤزي وكذلك عدد من المنصات وشبكات التواصل الإجتماعي بين روسيا ودول أوربا وأميريكا بمنعها وصول القنوات التلڤزية الروسية العمومية إلى المشاهدين الغربيين وفك الربط مع يوتوب وإنستغرام وغيرها من منصات التواصل الإجتماعي .
من الواضح أن هاته القرارات سيكون لها وقع شديد لا على المواطن والمستهلك الروسي فحسب بل كذلك على المواطن الغربي وعلى مستهلكي دول العالم الثالث .
–ب. العقوبات الروسية على الغرب :
كل هذا جار والحالة هذه أن روسيا لم ترد بعد على ما سمي بالعقوبات الغربية عليها إذ سنرى ما هي القرارات والإجراءات التي ستتخذها موسكو وما ستكون نتائجها على كل دول العالم من باب الغاز والنفط والحبوب والأسلحة المتطورة الخ .
وفعلا أصدرت موسكو مجموعة من العقوبات السياسية كرد على العقوبات الغربية وذلك في مرحلة أولى ضد واشنطن وأوطاوا .
وهكذا قامت موسكو بمنع مجموعة من كبار المسؤولين الأميريكيين دخول دولة روسيا على رأسهم الرئيس جو بايدن ووزير الخارجية طوني بلينكن ووزير الدفاع لويد أوستن Pentagone ومستشار الأمن القومي جين سوليڤان وويليام جوزيف برنز مدير CIA المخابرات س.أي. إي وحتى هيلاري كلنتون ومجموعة من رجال الأعمال الأميريكيين .
ويقول البلاغ أن العقوبات ستتوسع أكثر على الولايات المتحدة الأميركية لتشمل مسؤولين سياسيين وعسكريين ومشرعين ورجال أعمال وشخصيات إعلامية مؤثرة في السلطة الرابعة .
كما وضعت شخصيات كندية على لائحة العقوبات من بينها جوستان ترودو الوزير الأول الكندي ووزير الخارجية والدفاع ورئيس الوزراء ومعظم نواب مجلس العموم .
في هذا الجو المشحون قام رئيس الوفد الروسي في الجمعية الأوربية لمجلس أوربا بتسيلم أمينه العام رسالة من وزير الخارجية الروسي يعلن فيها قرار موسكو الإنسحاب من المجلس .
وهكذا تتسارع القرارات السياسية في توسيع الشرخ بين العالم الغربي وروسيا وما سينتج عن هذا من إعادة هيكلة المؤسسات العالمية .
6. نتائج المسلسل وآفاقه
في هذا الفضاء العام الذي ينذر بانفجار كبير جدا ، يتقاذف تفكيرنا ويتنذر حقنا في العيش المطمئن مجموعة من التساؤلات .
إن المتابعة المستمرة والمسترسلة لهاته العملية العسكرية التي سماها الروس ب”الخاصة” تجعل المتتبع يفكر في إطار فرضيات.
– ا. الفرضية الأولى :
يلاحظ أن اجتياح روسيا للأرض الأكرانيا قد لا يتوقف عند دخول عابر لجغرافية هذا البلد ، في الأمد المنظور ، بل سيتخذ أبعادا دراماتيكية تذهب أبعد من حدود أكرانيا الحالية إلى محاولة استعادة نفوذ روسيا على فضاء حلف وارسو المنحل .
يظهر من خلال خطاب الرئيس الروسي ڤلاديمير بوتين صباح يوم الخميس 24 فبراير 2022 ، الذي ذكر فيه بتاريخ روسيا بعلاقتها مع أكرانيا ، أنه :
–ا. يسعى ، بكلمات مبطنة ، إلى إعادة بسط نفوذ روسيا من جديد على كافة ربوع دول شرق أوربا التي كانت حتى بداية التسعينات في دائرة موسكو … من أجل هذا ،
– ب. ستبدأ روسيا بتقسيم أكرانيا كما فعل ناطو NATO – OTAN بيوغزلاڤيا ، وذلك في نفس سياق نهج فصل منطقة دونباس لوگانسك ودونيتسك ، ستفصل مناطق أخرى : مريوبول وأوديسا من أجل عزل التراب الأوكراني عن البحر والتحكم في بحر أزوڤ والمنطقة الشمالية للبحر الأسود ،
–ج. أتوقع أن تقوم روسيا بإشعال ثورات شعبية موجهة وهي ما سمي “بالثورات الليمونية” في الدول المجاورة أطرها الغرب : پولونيا ، سلوڤاكيا ، رومانيا ، مولداڤيا وبلغاريا ، ولو ان بلغاريا تحاول أن تسلك نهج “النأي بالنفس” .
وقد اشتعلت هاته الثورات خلال العشرية الأولى من القرن الحالي في هاته الدول نفسها بما فيها أكرانيا فغيرت حدود الناتو وتوسعت حدود المجموعة الأوربية إلى 28 دولة ثم 27 بعد انسحاب المملكة المتحدة بموجب بريكست.
– د. تتوسع الحرب العسكرية موازاة مع حرب سيبيرانية فيحاول كل معسكر محاصرة خصمه بل عدوه لتحييد قدرة تواصله وتخريب كفاءاته الإستخباراتية والعسكرية والتقنية والإدارية بكل أوجهها المالية والإقتصادية ،
–ه. منهج التلاعب بسيكولوجية الأفراد والمجتمعات : هذا النهج غاية في الخطورة إذ تسعى وساءل الإعلام والدعاية من النفاذ إلى اللاوعي الجماعي لأدمغة البشر وغسلها وتأطيرها حسب الخطوط التحريرية لكل معسكر ومصالحه وتوجهاته واختياراته الفكرية والسياسية والإقتصادية .
في هذا الجو المشحون ألاحظ كمتتبع وملاحظ مدني أرجح أن روسيا بصدد بناء جدار عسكري طويل يمتد من أول نقطة بالدونباس على بحر أزوڤ إلى كل حدود روسيا وبيلوروسيا مع أكرانيا لمواجهة التهديدات التي قد تنطلق من دول حلف ناطو بدء من بولونيا وسلوڤاكيا وهنغاريا ورومانيا فمولداڤيا.
ومن المنطقة الجنوبية تعمل روسيا على احتلال شاطيء بحر أزوڤ المحاذي لمنطقة دونباس باحتلال مريوبول ثم خيرسون ولاحقا أوديسا لاحتلال شاطيء البحر الأسود من أجل قفل وسد المنفذ لأوربا على البحر الأسود .
في نظري هذا المخطط المحبوك والمدروس بعناية هو الذي يجعل روسيا بطيئة في احتلال أوكرانيا بسرعة أكثر مع محاولتها وتفاديها إلحاق الضرر بالمدنيين من باب الواجهة الإنسانية ولكن كذلك السياسية كادخار لما بعد الحرب .
هل نحن على أبواب يالطا جديدة ؟ وهل سيعيد التاريخ نفسه في الإتجاه المعاكس ؟
–ب. الفرضية الثانية
هناك فرضية تقول بأن الغرب هو الذي دفع روسيا إلى الحرب بتكتيك الإستدراج وتحويل هاته الحرب الى المستنقع لإغراق روسيا في حرب استنزافية تغرقها في الوحل العسكري وارتداداته وبالتالي إضعافها وإنهاكها للقضاء عليها .
هاته في رأيي فرضية عالية السذاجة ، لأن المسؤولين الروس استراتيجيون وسياسيون وعسكريون صم بكم عمي إلى هاته الدرجة لاستدراجهم في حرب من هذا المنظور ؟
أظن شخصيا أن الروس كانوا يتهيؤون ، منذ بروز ڤلاديمير پوتين وصعوده إلى الواجهة ثم إلى قمة هرم الدولة ، إلى العودة إلى قيادة العالم مع باقي الدول العظمى .
وهكذا أعادوا هيكلة الدولة وانغمسوا بصمت وهدوء في البحث العلمي والمختبرات فاخترعوا وابتكروا ونظموا صفوفهم على جميع المستويات من الثقافة إلى السياسة والقانون مرورا بالبحث العسكري والسيبراني والنووي .
بعد هاته المرحلة التهييئية عادوا بقوة إلى المحافل الدولية باسطين نفوذهم وفارضين وجودهم كقوة عظمى نافذة وجاعلين من “أمنهم القومي” عمق استراتيجيتهم الدفاعية محدودة بكل الخطوط الحمر .
الخاتمة
هل قواعد التعاون والشراكة بين الدول الموصوفة بالمتقدمة تتمحور على المركزية التقريرية الغربية وتنفي التكافؤ والإحترام مع شريكاتها السائرة في طريق النمو ؟
ألم يحن الوقت بعد 56 قرنا من عهد سيدنا موسى عليه السلام و 20 قرنا من ميلاد المسيح عليه السلام و14 قرنا من هجرة نبينا سيدنا محمد صلعم بان تخترق البشرية أنانيتها ونرجسيتها المتجسدة في روح الهيمنة وحب السيطرة والتملك والنظر إلى بني البشر وبني جلدتها بمنظور المحبة والتقدير والإحترام وتدشين عهد الحضارة المتحضرة في القرن 21 ؟
أي “حضارة إنسانية” هاته التي يتحدثون عنها في الشرق والغرب وهم يتنافسون في اختراع أكثر الأسلحة فتكا بالحديد واللايزر والجراثيم والڤيروسات ؟
أي حضارة إنسانية يتنافسون بها في الخطب الرنانة والكتابات المنمقة وعلى رؤوس ألستنهم الحقد والبغض والنفاق وعلى رؤوس أقلامهم الكراهية والضغينة والإحتقار وحب الهيمنة والإستيلاب والإستغلال ؟
قرون وقرون خلت والبشرية تركض لتجد نفسها في نفس الدائرة أو أسوأ ، كل ما تغير هو لباس ومآدب وسيارات ومنازل ….
صراع مسترسل بين الفكر والمادة بمفهومها الكسبي والتملكي ، ويظهر جليا أن المادة ربحت المعركة عبر العصور .
وحين يتناظر الفكر والمادة فان البعد المادي هو الغالب مادام الإنسان مجبول على الغناء بفتح غ لان غريزة الرفاهية تغلب وحب السيطرة يغلب وحب الهيمنة يطفو والنرجسية والأنانية تغلف العمق القيمي عند الإنسان .
°د. بوزيد عزوزي- أستاذ جامعي/ عضو منتدى كفاءات إقليم تاونات.