الرؤية الدستورية السليمة لفهم المسطرة التشريعية على ضوء الفصل 84 من الدستور-بقلم :عبد المنعم لزعر+

الأستاذ عبد المنعم لزعر

الأستاذ عبد المنعم لزعر

بمناسبة نظره في مدى دستورية القانون التنظيمي رقم 130.13 لقانون المالية، صرح المجلس الدستوري في قراره عدد 950-14 الصادر بتاريخ 23 ديسمبر 2014، والمنشور بالجريدة الرسمية عدد 6322 بتاريخ فاتح يناير 2015، بأن: “مسطرة إقرار التعديل المدخل على المواد 21 ) الفقرة الأخيرة( و27) المقطع الخامس من البند أ من الفقرة الأولى( و69 و70 من القانون التنظيمي رقم 130.13 لقانون المالية، …”، غير مطابق للدستور. منطوق هذا القرار أثار انتباه عدد من الفاعلين والمتتبعين للممارسة التشريعية بالمغرب، وأسال مداد بعض الأقلام، واصفة إياه بأنه قرار: “أعاد الغموض إلى المسطرة التشريعية بين مجلسي البرلمان وزاد من تعقيداتها”، )عبد اللطيف بروحو: المجلس الدستوري يجمد العمل بالقانون التنظيمي للمالية، جريدة المساء، عدد 2585 بتاريخ 21-01-2015(، فأي غموض هذا الذي تسرب إلى المسطرة التشريعية؟ وما هي الرؤية الدستورية السليمة لفهم المسطرة التشريعية لإقرار القانون التنظيمي للمالية وغيره من القوانين؟ وهل يحمل تأويل المجلس الدستوري عناصر حسم موضوع الخلاف وأدلة إقناع التأويلات المنافسة بصواب منطوق قراره؟

                   صوتوا أو لا تصوتوا سيعود مشروع القانون… إلى مجلس النواب

    على امتداد الممارسة التشريعية لأول ولاية تشريعية يعرفها دستور 2011، ساد تفسير خاص لمضمون المادة 84 من الدستور، بدا وكأنه الفهم السليم للصيغة النصية المؤسسة للمسطرة التشريعية، مفاد هذا التفسير أن مجلس النواب أصبح بموجب الفقرة الثانية من الفصل 84 من الدستور، المجلس الحاسم في مجال التشريع والذي يعود له التصويت النهائي على النصوص التشريعية المحالة على البرلمان، حيث تم وفق هذه القراءة تمرير القانون المالي لسنة 2013، والقانون المالي لسنة 2014، والقانون التنظيمي لقانون المالية رقم 130.13، رغم عدم تمكن كل من مجلس النواب ومجلس المستشارين من الاتفاق على نص واحد، ففي الحالة الأولى صوت مجلس المستشارين في قراءته الأولى على نص مخالف للنص الذي صوت عليه مجلس النواب، “نقصد هنا مشروع القانون المالي لسنة 2013” وفي القراءة الثانية أقر مجلس النواب نصا مخالفا للنص الذي أقره مجلس المستشارين في القراءة الأولى، ودون العودة مجددا لمجلس المستشارين تمت إحالة النص بالصيغة التي أقرها مجلس النواب على رئيس الحكومة من أجل إحالته على الملك لإصداره الأمر بتنفيذه. وفي الحالة الثانية فقد رفض مجلس المستشارين مشروع القانون المالي لسنة 2014 في قراءته الأولى رغم إدخال بعض التعديلات عليه، ليعود النص مذيلا بصيغة الرفض إلى مجلس النواب الذي قام بإقراره في قراءة ثانية، وإحالته مرة أخرى على مسطرة الإصدار. وسيرا على نفس النهج قام مجلس النواب في قراءته الثانية بإقرار نص القانون التنظيمي رقم 130.13 لقانون المالية، بعد إدخال تعديلات متأخرة على المواد 21 ) الفقرة الأخيرة( و27) المقطع الخامس من البند أ من الفقرة الأولى( و69 و70، لتتم إحالته في صيغة مخالفة للنص الذي صادق عليه مجلس المستشارين في قراءته الأولى بتاريخ 22 أكتوبر 2014، وذلك، في إطار الإحالة الوجوبية للقوانين التنظيمية على المحكمة الدستورية عملا بمقتضيات الفقرة الثالثة من الفصل 85 من الدستور.

   من خلال هذه النماذج ظهر البرلمان بمجلسيه أغلبية ومعارضة، وكأنه واقع تحت تأثير سحر التأويل المزدوج “حكومي/ برلماني” لمنطوق الفصل 84، هذا السحر الذي، أقنعهم طواعية، بأن مجلس النواب يملك حقيقة سلطة البت النهائي في مجال التشريع المالي، لدرجة جعلت يد مجلس المستشارين ويد المعارضة مغلولتان، أمام سلطة هذا السحر، لينقلوا لنا بمرارة العاجز بأن وزير في الحكومة خاطب المعارضة في إحدى جلسات اللجن بمجلس المستشارين بقوله: ” صوتوا أو لا تصوتوا سأحيل المشروع المالي على النواب” جريدة العلم العدد 23087 بتاريخ 13-14 دجنبر 2014. رغم أن جانب من الفقه نبه أثر من مرة بأن: ” القول بكون مجلس النواب يملك البت النهائي بخصوص قانون المالية، حسب ما هو مقرر في الفقرة الثانية من الفصل 84 من الدستور، هو قول فظيع ورهيب بسبب أنه لا يمت بصلة إلى الفهم الصحيح للدستور” )الدكتور مصطفى قلوش: السقطة الكبري للمجلس الدستوري في قانون مالية 2014، منشورة على الموقع الالكتروني هسبريس بتاريخ 27 فبراير 2014(.

           الرؤية الدستورية السليمة لفهم المسطرة التشريعية على ضوء الفصل 84 من الدستور  

   

المجلس الدستوري

المجلس الدستوري

     تنص الفقرة الأولى من الفصل 85 من الدستور على أنه: ” لا يتم التداول في مشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية من قبل مجلس النواب، إلا بعد مضي عشرة أيام على وضعها لدى مكتبه، وفق المسطرة المشار إليها في الفصل 84…”، معنى هذا أنه ولفهم مسطرة إقرار القوانين التنظيمية بناء على دستور 2011 يتوجب الاتجاه صوب منطوق الفصل 84 من الدستور، والذي يحتوي بناؤه التركيبي على فقرتين موجهتين، الفقرة الأولى منه تنص على أنه: ” يتداول مجلسا البرلمان في كل مشروع أو مقترح قانون، بغية التوصل إلى المصادقة على نص واحد؛ ويتداول مجلس النواب بالأسبقية، وعلى التوالي، في مشاريع القوانين، وفي مقترحات القوانين التي قدمت بمبادرة من أعضائه. ويتداول مجلس المستشارين بدوره بالأسبقية، وعلى التوالي، في مشاريع القوانين، ومقترحات القوانين التي هي من مبادرة أعضائه؛ ويتداول كل مجلس في النص الذي صوت عليه المجلس الآخر في الصيغة التي أحيل بها إليه”. في حين نصت الفقرة الثانية منه، على مايلي: “ويعود لمجلس النواب التصويت النهائي على النص الذي تم البت فيه، ولا يقع هذا التصويت إلا بالأغلبية المطلقة لأعضائه الحاضرين، إذا تعلق الأمر بنص يخص الجماعات الترابية، والمجالات ذات الصلة بالتنمية الجهوية والشؤون الاجتماعية”.

    من خلال القراءة الأولية للفصل 84 يظهر أن هناك غموض يسكن بعض تفاصيل فقراته، وهو ما شجع الحكومة والبرلمان على ابتداع فهم يتماشى مع رؤيتهما لتنزيل منطوق هذا الفصل، فقرؤوا فيه ما ليس فيه، واستشفوا منه ما لا يستشف، لأن التدقيق في مضمون النص وبنيته يبدد الغيوم الحاجبة لحقيقة النص منطوقا وروحا، ويكشف كنه نية المشرع الدستوري من وراء صياغته لهذا الفصل، وهذا التدقيق لا يتحقق إلا بتجزيء بنيان الفصل وربط فقراته بنصوص أخرى من جنس مدلوله. وباعتماد هذا التوجه نقف على ثلاث مقاطع مشكلة للفقرة الأولى من الفصل 84، وهي مقاطع منفصلة ومتصلة في نفس الوقت، وذلك على الشكل التالي:

     المقطع الأول: هو ما نصت عليه الفقرة الأولى من الفصل 84 من أنه ” يتداول مجلسا البرلمان في كل مشروع أو مقترح قانون، بغية التوصل إلى المصادقة على نص واحد” من خلال هذا المقطع يتضح بأن التداول في كل مشروع أو مقترح قانون يجب أن يكون بالتتابع بين مجلسا البرلمان، والتتابع هنا يقصد به خضوع التشريع إلى الجولات المكوكية بين المجلسين، وهدف التداول بالتتابع حسب منطوق النص المعبر عنه بعبارة “بغية” هو التوصل إلى المصادقة على نص واحد. بمعنى أن أي مشروع أو مقترح قانون أحيل على البرلمان لا يمكن إحالته على مسطرة الإصدار كقاعدة عامة ما لم يتحقق هدف التداول بالتتابع بين المجلسين وهو التوصل إلى المصادقة على نص واحد.

    المقطع الثاني: هو ما نصت عليه الفقرة الأولى من أنه: ” ويتداول مجلس النواب بالأسبقية، وعلى التوالي، في مشاريع القوانين، وفي مقترحات القوانين التي قدمت بمبادرة من أعضائه. ويتداول مجلس المستشارين بدوره بالأسبقية، وعلى التوالي، في مشاريع القوانين، ومقترحات القوانين التي هي من مبادرة أعضائه“، قراءة هذا المقطع تفيد بأن المشرع الدستوري منح كلا من مجلسا البرلمان الحق في التداول بالأسبقية في مشاريع القوانين وفي مقترحات القوانين المقدمة من طرف أعضاء كل مجلس، مع تأكيده على أن التداول يتم على التوالي، بمعني بالتتابع بين المجلسين، من أجل الوصول إلى الهدف المصرح به في المقطع الأول من الفقرة الاولى من الفصل 84، وهو التوصل إلى المصادقة على نص واحد.

      المقطع الثالث: هو ما نصت عليه ذات الفقرة في آخر بنيانها على أنه: ” ويتداول كل مجلس في النص الذي صوت عليه المجلس الآخر في الصيغة التي أحيل بها إليه“، قراءة هذا المقطع تفيد بأن المشرع وإسرافا منه في توضيح مسطرة التداول بالتتابع، يشدد على أن  التداول في النص يجب أن يبقى محصورا في الصيغة التي أحيل بها من المجلس الذي صوت عليه أولا في إطار الأسبقية المشار إليها في المقطع الثاني، والغرض من وضع هذا الشرط هو تيسير مهام التداول ومساعدة المجلسين على التوصل إلى المصادقة على نص واحد في أقصر شوط من أشواط التداول المكوكي. ماذا تعني القراءة ؟ تعني أن مجلس النواب ومجلس المستشارين كقاعدة عامة يملكان حقوقا متساوية ومتعادلة في مجال التداول والبت في مقترحات أو مشاريع القوانين التنظيمية أو العادية، أستحضر هنا القوانين التنظيمية لأن الفصل 85 يحيل إلى الفصل 84 من الدستور.

    وبالعودة إلى مضمون الفصل 84 من الدستور يلاحظ بأن الفقرة الثانية التي تشكل عقدة هذا النص، ومصدر غموضه أن بنيانها غير متماسك وغير متجانس، تجانس وتماسك الفقرة الأولى من ذات الفصل، ومفتاح فهم معنى هذه الفقرة يوجد خارج منطوقها، وبالضبط بالفقرة الثانية من الفصل 78 من الدستور، هذه الفقرة التي تنص على أنه: ” تودع مشاريع القوانين بالأسبقية لدى مكتب مجلس النواب، غير أن مشاريع القوانين المتعلقة، على وجه الخصوص، بالجماعات الترابية وبالتنمية الجهوية، وبالقضايا الاجتماعية، تودع بالأسبقية لدى مكتب مجلس المستشارين“، تحليل عناصر فقرة الثانية من الفصل 78 يوضح بما لا يدع مجالا للبس الترابط المتين بين هذه الفقرة وبين الفصل 84، وهو ترابط من نفس جنس الترابط الحاصل بين الفصل 85 والفصل 84، الفرق بين الحالتين، أن المشرع في الحالة الثانية استعمل الاحالة للربط لتفاوت القيمة بين جنس القانون العادي “الفصل 84” وجنس القانون التنظيمي “الفصل 85″، في حين وحدة مضمون ومنطوق الفصلين 78 و84 تشكل أكبر واصل يربط بين الفصلين، دون الحاجة لاستعمال الإحالة من طرف المشرع. لماذا؟ لأن الفقرة الثانية من الفصل 78 تضمنت جوابا للسؤال الذي يمكن أن يطرح بخصوص تدبير حق الأسبقية المنصوص عليها في المقطع الثاني من المفقرة الأولى من الفصل 84 فيما يتعلق بمشاريع القوانين، مفاد هذا الجواب، أن مجلس النواب له الأسبقية بالتداول في جميع مشاريع القوانين المحال عليه من طرف الحكومة عملا بالفقرة الثانية من الفصل 78، بينما مجلس المستشارين له الأسبقية بالنظر في مشاريع القوانين المتعلقة، على وجه الخصوص، بالجماعات الترابية وبالتنمية الجهوية، وبالقضايا الاجتماعية. ما علاقة هذا القول بعبارة التصويت النهائي لمجلس النواب الواردة في الفقرة الثانية من الفصل 84 والمحتج بها في إقرار مشروع القانون التنظيمي للمالية؟  بالرجوع إلى هذه الفقرة نجدها تنص على ما يلي: ” ويعود لمجلس النواب التصويت النهائي على النص الذي تم البت فيه، ولا يقع هذا التصويت إلا بالأغلبية المطلقة لأعضائه الحاضرين، إذا تعلق الأمر بنص يخص الجماعات الترابية والمجالات ذات الصلة بالتنمية الجهوية والشؤون الاجتماعية”، لفهم مضمون هذه الفقرة يتعين علينا تكسير بنياتها وإعادة تقديمها بشكل جديد تيسيرا للفهم، لتبدو على الشكل التالي: “وإذا تعلق الأمر بنص يخص الجماعات الترابية والمجالات ذات الصلة بالتنمية الجهوية والشؤون الاجتماعية، يعود لمجلس النواب التصويت النهائي على النص الذي تم البث فيه، ولا يقع هذا التصويت إلا بالأغلبية المطلقة لأعضائه الحاضرين”، بمعنى أنه إذا كان مجلس المستشارين يملك حق التداول بالأسبقية في مشاريع القوانين المتعلقة على وجه الخصوص، بالجماعات الترابية والمجالات ذات الصلة بالتنمية الجهوية والشؤون الاجتماعية، فإن مجلس النواب يملك سلطة التصويت النهائي على هذه النصوص، دون غيرها، كاستثناء من القاعدة المنصوص عليها بالفقرة الأولى من الفصل 84، القاضية بوجوب التداول بين مجلسا البرلمان بالتتابع في كل مشروع أو مقترح قانون، سواء كان قانونا عاديا أو تنظيميا بغية التوصل إلى المصادقة على نص واحد.

    وبما أن مشروع القانون التنظيمي لا يدخل في مجال القوانين التي يملك مجلس المستشارين الحق بالتداول فيها بالأسبقية، عملا بمقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 78 فإنه لا يمكن لمجلس النواب البت في هذا المشروع بالتصويت النهائي عملا بمقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 84 من الدستور. وهو ما يعني بأن ما قرره المجلس الدستوري في قراره عدد 950.14 من أن :” تعديل مقتضيات سبق أن توصل المجلسان بشأنها إلى المصادقة عى نص واحد، فإن ذلك لا يخول للمجلس المذكور الحق في التصويت النهائي على هذا التعديل. خلال قراءة ثانية أو قراءات موالية. دون عرض النص من جديد على مجلس المستشارين لما في ذلك من إخلال بقاعدة التداول بين المجلسين”، يعتبر اجتهادا موفقا  يتماشى مع صريح ومنطوق الفصل 84 من الدستور، وما على الحكومة إلى أن تعيد مشروع القانون التنظيمي لقانون المالية إلى مجلس النواب الذي يتعين عليه أن يحيله بصيغته على مجلس المستشارين ليتداول فيه مجددا، إلى أن يتم التوصل إلى المصادقة على نص واحد.

+ من مواليد إقليم تاونات – باحث في العلوم السياسية والقانون الدستوري

عن الكاتب

صحفي

تاونات جريدة إلكترونية إخبارية شاملة مستقلة تهتم بالشأن المحلي بإقليم تاونات وبأخبار بنات وأبناء الأقليم في جميع المجالات داخل الوطن وخارجه.

عدد المقالات : 7726

اكتب تعليق

لابد من تسجيل الدخول لكتابة تعليق.

جميع الحقوق محفوظة لموقع تاونات.نت - استضافة مارومانيا

الصعود لأعلى