تفوق الدارجة المغربية على العربية الفصحى كونها جزء هام من نشأتنا الكلامية وتعبير عفوي بليغ عن نبض الأمة وروحها
أحمد الميداوي* –باريس:”تاونات نت”/- من باب المؤكد أن رجال اللغة ومعهم صناع الإبداع الثقافي بلغة الضاد سيمطرونني، حال إطلاعهم على رأيي بشأن لغتنا العربية، بأرذل الصفات وأحقر النعوت بعد أن يُمشتقوا سلاح العروبة والذاكرة والإسلام والهوية.. ورأيي وإن أغضب هؤلاء، هو أن اللغة العربية لغة أجنبية على المواطن المغربي، وإن لم تكن كذلك، فهي لغة غريبة بالنسبة لعامة الناس وللمثقفين على السواء.
فكم منا يستطيع الحديث بطلاقة باللغة الفصحى دون أن يتردد في البحث عن شكل الكلمة التي سيتلفظ بها بدلا من التركيز علي فحوى الموضوع؟ وإذا كان مجال التفكير مرتبط أشد ارتباط باللغة وبمستوى التمكن منها، كما يؤكد ذلك اللسانيون، فكم من المغاربة قادر على أن يؤسس لأفكاره وخياله دون التمسك بجذور اللهجة الدارجة المتأصلة في أعماق هويته والمستنبتة من صميم بيئته؟.
لا ينفع في شيء التعصب للغة العربية التي وإن كانت تعبر في عمقها عن نبضات المجتمع ومعتقداته، كونها لغة القرآن الكريم، فهي تبقى غريبة عن النشأة اللغوية المغربية تداولا واستعمالا، حيث اللغة الدارجة تشكل كنزا تراثيا متراكما بكل تناقضاته وتنوعاته. وحجتنا في ذلك كون البرامج الإذاعية والتلفزية أكانت سياسية أو اقتصادية، أو حتى ثقافية وأدبية كلها تُبث باللغة الدارجة.
ثم إن حضور الدارجة القوي في وجدان المغاربة وكيانهم، شجع الكثير من الكتاب والشعراء والروائيين والإعلاميين إلى سكب الكثير من المفردات من اللغة العامية في اللغة الفصحى لتشكل شحنة معبرة بشكل أقوى عما يعتمل في نفوسهم.. قد يعتبر البعض توظيف الدارجة هلاكا بطيئا للغة الفصحى، وقد يرى فيه البعض الآخر لمسة إبداعية تضيف جمالا لجوهر اللغة الفصحى.. وبين الموقفين تتجلى حقيقة واضحة مفادها أن التحاور بين الفصحى والدارجة ليس مبرره أن الأولى ذات تركيبة معقدة صعبة النفاذ،والثانية تتميز بإيقاعات نافذة، ولكن لتبيان قيمة اللغة الدارجة وقوة نفاذها في كيان مجتمع نما وترعرع في أحضانها.
حقيقة ثانية أنه عندما باشرنا الدراسة في سن السادسة، كانت حصيلتنا من مفردات اللغة العربية قليلة لا تتعدى ألف كلمة في أحسن الأحوال. وصادفنا في أقسامنا الأولى واقعا صادما بعد أن فوجئنا بأن لغة القراءة والكتابة التي سنتعلمها هي لغة شبه أجنبية عنا أو على الأقل غريبة، وإن كانت تسمي اللغة العربية..
بدأنا نفهم أن الجرانة هي الضفدعة وأن البنان هو الموز وأن الصبّاط هو الحذاء، وأن خيزو هو الجزر.. سيل من المفردات غريبة عن نشأتنا الكلامية. مفردات كنا نتداولها في معيشنا اليومي بين الأصدقاء وفي البيت لا تمت بصلة إلى لغتنا الفصحى، بينما كانت حصيلة أطفال فرنسا على سبيل المثال قبل دخولهم إلى المدرسة 16.000 كلمة 97 % لا يختلف عما سيجده في الكتب المدرسية، وأطفال بريطانيا 17.000 كلمة.
وإذا صدقنا رجال اللغة ولأبحاث الحديثة القائلة إن الطفل يركز جهدا وطاقة هائلين في سنواته الأولي وحتى الخامسة من عمره، لإتقان اللغة التي سيقرأها ويتعلمها لتكون الأداة المعبرة عن نفسه، وإذا ضاعت منه هذه الفرصة، فلن يُتقنها مهما حاول ذلك فيما بعد، فإننا نتخيّل كلنا المسافة التي تفصلنا عن لغتنا الفصحى تعبيرا وإنشاء.. وحينما نفهم أننا نعيش في مجتمع نصفه أُمي آنذاك تتضح أكثر السمة الغريبة والأجنبية للغتنا العربية. ولعل الكثيرين من تلامذة الستينات والسبعينات من أمثالي استحضروا دعوة الأم أو الأب أبنائهما لترجمة رسالة توصلت بها العائلة من الابن المهاجر أو من الأقارب، من اللغة العربية إلى الدارجة.
ولما كانت كل الأجيال السابقة تترك للأجيال اللاحقة كنوزا ثمينة من التراث الشفوي والمكتوب، فإننا حينما نستحضر رصيدنا من هذا التراث بصنوفه المختلفة (أمثال، أزجال، أشعار، حكم…)، نتبين أن معظم هذا الرصيد جاءنا باللغة الدارجة التي شكلت على مر السنين جانبا مهما من أسلوب عيش الإنسان المغربي وملامحه وقسماته ومعتقداته. ومن منا لا يُقر بأن فن الملحون هو ديوان المغاربة إبداعا وتأليفا حيث تتوهج شعلة الكمة الدارجة المنغومة لتنقل بمعانيها وتراكيبها زخما من ذكريات أهل تافيلالت ومكناس وفاس وسلا ومركش، حيث نما وازدهر هذا الفن. وقصيدة الملحون هي شعر عامي مكتوب بالدارجة مع اقتراض بعض المفردات من اللغة العربية تعطيه شحنة جمالية أقوى.
وفي كل ما نصادفه من كتب حول الحكم والأمثال الشعبية المغربية التي هي تعبير عفوي بليغ عن نبض الأمة وروحها، لم أعثر سوى على قلة قليلة جدا من الأمثال المغربية الصرفة المنقولة بالعربية الفصحى. والسبب ببساطة هي أن الأمثال المأثورة مثل الحكايات الشعبية التي كنا، قبل النوم، نُكوّن بها وجداننا كأطفال، ولا يمكن للفصحى آنذاك أن تنفذ في غربال الأذن المتعودة على الدارجة المنسابة والمعبرة.
لكن أن تكون اللغة الفصحى حاضرة بشكل باهت في صلب المجتمع ونمطه التعبيري، فهذا لا ينال في شيء من قوة هذه الأداة التي حملت لنا الإسلام وما انبثق عنه من إشعاع حضاري، وجسدت منذ أبعد العهود أفكارنا وأحاسيسنا، وهي اليوم مقوم من أهم مقومات حياتنا. اللغة التي اعتبرها المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير، “أم اللغات وأقواها تعبيرا على الإطلاق”.
أحمد الميداوي*: كاتب وصحافي مغربي (من مواليد إقليم تاونات-مقيم بباريس/فرنسا).