تحقيق :هكذا تنافس “العوادات” الأطباء المتخصصين في أمراض الأذن والحنجرة بإقليم تاونات
تنتشر في الأسواق الأسبوعية بإقليم تاونات، ظاهرة “التعواد”، تمتهنها نساء يدعين توفرهن على قدرات خارقة لعلاج بعض أمراض العيون والأذن والحنجرة والمعدة، ويتلقين مقابل ذلك مبالغ مالية تتراوح بين 20 و50 درهما، بل تصل إلى 100 أو 200 درهم في كثير من الأحيان. زبائنهن من طبقات اجتماعية مختلفة، لكن صدى بركة “العوادة” يتمكن بشكل قوي في وجدان ووعي سكان القرى، فضلا عن ذوي الدخل المحدود من الذين تثقل كاهلهم فاتورات الأطباء المتخصصين. “
“العوادة”.. مهنة رأسمالها خيمة صغيرة ولترين من الماء:
لا يتعلق الأمر بعيادة طبية تقع في أحد طوابق عمارة وسط العاصمة، ولا بمصحة خاصة مجهزة بأحدث تقنيات الفحص، وإنما هي مجرد خيمة بدوية صغيرة تجلس تحتها امرأة ناهزت الستين، وقد انحنى أمامها رجل في مقتبل العمر وشرعت في تمرير كفها على إحدى أذنيه، طبعا بعدما صبت قليلا من الماء في كفها، ثم أخرجت شيئا وضعته في يد الرجل الذي بدأ يتفحصه في اندهاش كبير.
مشهد “العوادة” وهي تفحص المريض، يمكن الوقوف عليه بثلاثاء بني وليد بتاونات، حيث تنصب المرأة “العوادة” خيمتها بمساعدة أحد أقربائها، ويكون ذلك في وقت مبكر من صباح يوم السوق الأسبوعي، وتجنبا لعيون المارة والمتسوقين، فإن المكان الذي تنصب فيه “العوادة” خيمتها يكون معزولا عن دينامية السوق وحركيته، ذلك أنها اتخذت من سور السوق الطويل حجابا خلفيا ومن أشجار الزيتون المجاورة مانعا من اختلاط المرضى الذين يقصدونها بغيرهم من المتسوقين.
يعلق أحد الفضوليين كان يتابع ما يجري داخل الخيمة، في تصريح للجريدة ” العوادة رأسمالها قيطون وسطل من الماء.. والفلوس كتنزل بحال الشتا”، تصريح يكشف عن المكان المتواضع الذي تشتغل فيه العوادة، وأيضا الوسائل التي تعتمدها في علاج المرضى، حيث يتأكد اقتصارها على قليل من الماء تمسح به على أذن المريض أو عينه، وأحيانا تمرر اليد على الصدر لإخراج ما يوجد في الداخل.
هكذا انتقلت مهنة “العوادة” من السر إلى العلن:
يتذكر أحد العارفين بالممارسات الطبية الشعبية البدايات الأولى لظهور “العوادة” بأسواق إقليم تاونات، حيث يرجعها إلى سنوات التسعينيات، ويعتبر أن منطقة الريف وإقليم تازة من المناطق التي تنشط فيها هذه الأشكال من التعاطي الشعبي للعلاج ” في نهاية التسعينيات كانت كتجي واحد السيدة ولكن ماكانش الإقبال عليها كبير لأن الناس كانوا تيخافو يمشيو عندها”، ويضيف في ذات السياق ” ثمن التعويدة كان بسيطا لا يتجاوز 5 إلى 10 دراهم أما اليوم فلا تكفيك 100 درهم”.
يقول “ع.م” شاب في عقده الرابع، عانى كثيرا من مرض لم يجد له علاجا في مستشفيات الدولة، لكنه وجد راحته عند إحدى “العوادات” بمنطقة عين عائشة بتاونات، ” كنت أحس باختناق شديد لا أقوى معه على التنفس..زرت مستشفيات فاس وتاونات، لكن حالتي الصحية لم تكن تتحسن حتى جاب الله الشفا على يديها”. كل هذه التصريحات لم تكن لتخرج إلى العلن لولا تزايد اهتمام المغاربة بالطب البديل، رغم أن “التعويذة” لا علاقة لها بالأعشاب أو النباتات الطبية، وإنما هي على حد تعبير “الشوافات” بركة يهبها الله لمن يرضى من عباده، ولأن العلاقة لم تكن متصالحة جدا بين المواطن وعملية “التعويذة”، ظلت لسنوات حبيسة الظل قبل أن تخرج إلى العلن ويصبح لها زبائنها ومتعاطفين مع النساء اللاواتي يتعاطين لها، وحتى السلطات تتعامل مع الممتهنين لها بنوع من المرونة، إذ ناذرا ما تتدخل لمنع ممارسة هؤلاء لنشاطهم “البرائكي” الذي يذر عليهم أموالا تفوق حدود التصور.
وفي ذات السياق يؤكد ” ع.س” طالب في سلك الدكتوراة بشعبة التاريخ بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، أن العرب من الشعوب الأكثر اهتماما بثقافة “العوادات” والعرافة والدجل والفراسة، وساهم تواتر الظاهرة في ترسبها داخل وعي الفرد الذي وجد نفسه بين الفينة والأخرى مندفعا نحو التعاطي لها، سيما في ظل توقف العلاج الطبي عندما يتعلق الامر بأمراض ك”التوكال” و”التقاف” والسحر.
العين والأذن والحنجرة.. حبات قمح وقطع نقدية:
بمنطقة عين عائشة بتاونات، وبالضبط خلال انعقاد يوم السوق الأسبوعي، تصطف خيام صغيرة يترصص أمام أبوابها زبائن من مختلف العمر والجنس، منهم من أنهكه تعب المرض الذي ظل لسنوات يبحث له عن علاج، كمرض “التوكال” الذي يرتبط عادة بثقافة الطعام الذي تقدمه امرأة لشخص بدافع الانتقام، ويدفع الضحية إلى تقيء “لعاب” متصلة كأنها خيوط منسوجة أعدت لغرض الخياطة، والبعض الآخر يقصد “العوادة” لإزالة السحر و”العكس”، ومنهم من يقصدها لإزالة ذبابة أو حصى صغيرة سقطت في الأذن، حيث يتطلب إزالتها إجراء عملية جراحية مكلفة، بينما لا تتجاوز “تعويدة” المرأة تحت الخيمة في يوم السوق الأسبوعي 20 إلى 50 درهما.
يتذكر”ع.ك” أستاذ بتاونات، كيف تمكنت “العوادة” من إخراج قطعة نقدية تدحرجت إلى معدته فجأة، ولم يكن في البداية يؤمن بالعمل الذي تقوم به، لكن عندما نصحته الأسرة بالتوجه إلى إحداهن بأحد أسواق الإقليم، تأكد له معنى “البركة” التي تدعي “العوادة” امتلاكها، خصوصا عندما تكشف عن طبيعة الأدوات التي تعتمد عليها، فهي لا تشغل سوى كفها وقليل من الماء، وبعدها تبدأ عملية التدليك على الأذن أو الصدر، طبعا حسب طبيعة العلاج الذي يحتاجه المريض، يقول “ع.ك” في تصريح للجريدة ” ثواني قليلة لمضمضة جرعات من الماء، انحناءة خفيفة مصحوبة بتمرير يد “العوادة” على الفم، وبعدها تأمر ب”التنخم” مرتين أو ثلاث، ثم يأتي الخلاص لتستنتج ما جادت به المعدة من قطع نقدية وقطع بلاستيك صغيرة وغيرها من الأشياء التي علقت نزلت إلى المعدة أو علقت بالأذن أوالعين”.
“العوادة” ليست “شوافة”.. لذلك تحقق البقاء والاستمرارية:
قصصهم مع “العوادات” لا تنتهي، بل منهم من جرب الأولى والثانية والثالثة، وكل من ثبت علاجه من مرض ما، تجده يدافع بشراسة عن السيدة التي كانت سببا في العلاج، لكن ما يمكن تسجيله في هذا الإطار هو انسجام غالبية الأفراد مع العمل الذي تقوم به “العوادات”، ومنهم من يلح على ضرورة التمييز بين ما تقوم به “العوادة” وما تقوم به “الشوافة”؛ فقط لأن “العوادة” مهمتها إخراج بعض المواد التي علقت بالأذن أو العين أو المعدة.. ولا حاجة لها بالسحر أو الشعودة، فهي لا تقدم تمائم ولا تنصح باستعمال بخور، لذلك بقي الإقبال عليها إلى حدود اليوم. هذا تماما ما صرح به أحد المواطنين بسوق الأحد بمنطقة عين عائشة بتاونات، موضحا أن كل من يدعي قدرته على طرد النحس أو جلب السعادة أو تزويج العانس.. لا يقدم سوى الوهم فقط، لأن مثل هذه الغايات لا يقدر عليها سوى الله الذي خلق ورزق، والأكثر من ذلك، يضيف المواطن ذاته، أن مازال هناك من يؤمن بقدرة الآخرين على جلب الرزق وإبعاد الشر وطرد النحس وما إلى ذلك من الأمور التي تجعل الفرد ضحية نصب حقيقي، سيما وأن تكلفة ذلك تكون عالية في بعض الأحيان.
علاقة المواطنين بظاهرة “التعواد” تنشط خلال موسم الصيف، وذلك بحكم الأعمال الفلاحية التي يقوم بها الرجال والنساء، حيث يتسبب حشيش الأرض وسنابل القمح والشعير في إصابة العين والأذن، وأحيانا تمتلأ الرئتين بالغبار الذي تخلفه عملية تذرية الحبوب، الشيء الذي يعجل بالفلاحين إلى زيارة “العوادة” خلال يوم السوق الأسبوعي، وهكذا يتخلص من الشوائب التي علقت ويعالج نفسه ب20 أو 50 درهما.
إقليمي تاونات وتازة.. المعقل الأصلي ل”العوادات”:
طقس “العوادة” محدود جغرافيا، فهو غير معروف في منطقة الأطلس المتوسط، إلى حدود أنه يجعل البعض يصفونه بعمل “الشوافة”، بينما هو ممارسة علاجية خاصة تنحصر مجاليا في إقليمي تاونات وتازة، وتمارسها نساء تجاوزن الخمسين سنة، يعملن على تطهير الأعضاء الباطنية وإزالة ما علق بالعينين و الأذنين، وهي ممارسة تجمع بين الواقعية والاندهاش، وأسرارها تجعل المتعاطين لها يؤمنون ب”بركة” موروثة أو هبة من الله.
اقتصار طب “العوادات” على إقليمي تاونات وتازة، جعل الزوار يتوافدون عليها من مناطق ومدن مغربية مختلفة، بل من المهاجرين في الخارج من يستغل عطلة الصيف ليزور “العوادة” ويتبرك ببركتها، وهو ما يعكس حاجة الفرد لطب بديل يتجاوب والحاجة الروحية لمواطنين أثقلتهم هموم الحياة المادية وحاصرتهم أعباء البحث الحثيث عن لقمة العيش
علماء النفس والاجتماع.. اهتمام المتخصصين بظاهرة تتوفر على شروط البقاء:
ظاهرة “التعويدة” تثير كثيرا اهتمام المختصين من علماء النفس والاجتماع والأنكولوجيا وغيرهم، وذلك بحكم تمكنها داخل المجتمع، وأيضا بفعل التزايد المطرد لشرائح مختلفة لمواطنين باتوا يؤمنون بأن أمراض المعدة والعين والأذن والحنجرة والكلي… وجدت طريقها إلى العلاج بفضل “العوادات” المتنقلات بين الأسواق الأسبوعية، رغم أن هذا النوع من التعاطي الشعبي و”الميتافيزيقي” يبدو أنه فاقدا للمصداقية والمشروعية العلمية، سواء على مستوى التشخيص أو على مستوى العلاج.
يؤكد عبد الرحيم العطري، الأستاذ الباحث في علم الاجتماع، في مؤلفه “بركة الأولياء”، أن “تداول الرمز (فعل التعويدة مثلا) يكرس سلطته التأثيرية، كما أنه عن طريق “تطقيس” الرمز وتصريفه في المجال، تتوطد هذه السلطة وتصير موجبة للخضوع والهيبة”ص 26، وهذا ما يفسر إعادة إنتاج الطقس السلوكي المرتبط بزيارة “العوادة”، بل يبرر الأفراد في كثير من الأحيان الطرائق والغايات التي تصرف بها المتعاطيات لطقس “التعويذة”.
3 أسئلة للأستاذ المفضل الحضراتي رئيس المجلس العلمي المحلي لتاونات
-
1. ما رأي الشرع في الممارسات التي تقوم بها “العوادة” ؟
أولا يجب أن نميز بين العمل الذي يحضر فيه الدجل والشعودة وهو منهي عنه قطعا، وبين التجارب التي تتوفر عليها بعض النساء في إزالة ما يمكن أن يصيب العين أو الأذن كأن تزيل المرأة بلسانها شعرة من العين أو حشرة ميتة في الأذن، فذلك جائز ولا يدخل في خانة الشرك أو الشعودة.
-
2. لكن هناك “عوادات” يدعين امتلاك قدرة إزالة الحجر من الكلي أو المعدة، كيف تفسرون ذلك؟
هنا يحضر الوهم والدجل، فلا قدرة للمرأة أن تخرج حجرا من الكلي بجرعة ماء يمضمض بها المريض فمه، بل يمكن أن يكون السر في جرعة الماء ذاتها، كأن تعمد “العوادة” إلى دس حصى صغيرة في جرعة الماء تلك فتنبهر بعدها لعبقريتها.
-
3. معنى هذا أن “البركة ” لا وجود لها كما يدعي بعض الممتهنين لهذه الأشكال من العلاج الشعبي؟
البركة مجرد وهم يصرف به هؤلاء الطقوس العلاجية التي يزاولونها لكسب المال، أعود وأقول إن التجربة ممكنة عندما يتعلق الأمر بشيئ بسيط تفلح فيه بعض النساء، ومن ذلك إزالة شعيرات أو حبات رمل من العين أو الأذن، أما أن ترفع “العوادة” سقف قدراتها العلاجية فتلك مسألة غير مقبولة لا شرعا ولا علميا.
بوجمعة الكرمون/تاونات
عن الكاتب
مواضيع ذات صلة
اكتب تعليق
لابد من تسجيل الدخول لكتابة تعليق.