مركز غفساي في عهد الحماية الفرنسية: بعض المعطيات التاريخية عن امتداد مجاله العسكري 1926-1932
د. محمد اللحية*-فاس:”تاونات نت”/-أنشأ الفرنسيون مركز غفساي (إقليم تاونات حاليا) ، بعد إنهاء سيطرتهم على قبيلة بني زروال سنة 1926، لتُدبر انطلاقا منه شؤون عدد من جماعاتها وليكون مقرا لدائرة ورغا الوسطى. وقد أطلقوا عليه اسم دوار كان يوجد بشرقه على مسافة خمس دقائق مشيا، كما يتبين ذلك من رسوم حيازتهم للأراضي التي أقاموا عليها المركز وتوابعه، حيث تنسب غالبية ملكيتها إلى غاية هذا التاريخ لسكان الدوار، بكتابة اسمه في بعضها غفساي بالسين، وفي أخرى غفصاي بالصاد.
كما أن قِدم الدوار وشهرته قبل تاريخه، يشهد عليها وجود اسم قائدين من قواد القرن التاسع عشر ينسبان إليه هما: القائد عمر بن حساين الغفساوي في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان، والقائد محمد بن محمد الغفساوي أحد قواد السلطان مولاي الحسن على بني زروال.
تعتبر مسألة حيازة السلطات الاستعمارية لأراضي السكان المحليين (الأهالي) من الإجراءات المعتادة عند انهائها مقاومة إحدى المناطق وانصرافها إلى إنشاء مركز للشؤون الأهلية يراقب ويدبر شؤونها، وإنشاء ثكنة عسكرية ملحقة به، إن كان من المراكز التي تستدعي استراتيجيا وجود ثكنة عسكرية محتضنة إما لإحدى فرق الگوم (حالة طهر سوق)، أو لقوات عسكرية نظامية (حالة غفساي)، حيث كانت إقامة مرافق المنشأتين تتم فوق اراضي تحاز من يد أصحابها الأصلين بثلاث طرق: نزع المالكية بحجة المصلحة العامة، وادعاء المستعمر تنازل المالكين لها عنها طواعية بما يعرف ب «الهبة» أو بدفعهم بكيفية ما إلى بيعها بثمن رمزي. من الناحية القانونية، تلحق الأراضي التي حيزت لإدارة الشؤون الأهلية بأملاك الدولة المغربية (الدومين)، فيما تعتبر الأراضي التي حيزت لفائدة الثكنة العسكرية وتوابعها ملكا للسلطات العسكرية الفرنسية.
بالتركيز على أهمية الأراضي التي تطلبها إنشاء ثكنة غفساي وامتداداتها انطلاقا من سنة 1926، يلاحظ من خلال وثائق الأرشيف الفرنسي، أن مساحتها كانت على سعة كبيرة جدا، مقارنة بثكنات المناطق المجاورة. فإذا كانت مثلا مساحة ثكنة طهر سوق وتوابعها لا تتجاوز في أقصى تقدير 8 هكتارات، فمساحة نظيرتها بغفساي قاربت 150 هكتارا، قسم من ملكيتها كان بحوزة سكان دوار تازغدرا، فيما كان القسم الآخر الأكبر ملكا للغفساويين، وقد تملكتها منهم القوات الفرنسية على مراحل فيما بين سنتي 1926و1934، وذلك بهدف الأغراض والسياقات التالية:
- في سنة 1926وبعد إتمام الجيوش الفرنسية سيطرتها على بني زروال عقب استسلام الزعيم محمد بن عبد الكريم، استولت سلطاتها على أراضي التل المعروف محليا بثلاث صيغ مختلفة هي: «راس راس» و «راس تراس»، و «لاتراس». ومن دون الخوض في موضوع هذا الاختلاف، يمكن التأكيد على أنه من الصعب الحسم في معنى اسم هذا الموقع، ما لم يتم التحقق من أصله: هل كان متداولا قبل الوجود الفرنسي أم هو مرتبط بوجوده: فإن كانت الحالة الأولى، فسيكون الاحتمال الأكثر ترجيحا للكلمة أنها تحريف لكلمة «تراست» التي تشير في الأمازيغية (تاشلحيت) إلى مرتفع التل، والتي تطلق على كثير من المواقع المغربية التي تمتاز بهذه الخصوصية الطوبوغرافية، وإن كانت من الكلمات الدخيلة المرتبطة بفترة الحماية، فالتفسير الذي يبدو محتملا لمعناها، أنها تحريف للكلمة المركبة من الحروف المختزلة راس (د.ر.س) (D.R.S) التي ترمز بحروفها إلى تقنيات إقامة المصاطب على المنحدرات، والتي كانت إدارة الحماية بمركز غفساي سنة 1953، قد كلفت فعلا، فرقة الگوم 41 المتوقفة به، بإقامتها بمنحدرات التل المذكور.
ما يعنينا أكثر من هذا التل، أنه بوضعه الطبوغرافي البارز، المشرف على ما حوله من منخفضات الأودية من جميع الجهات، كان يكتسي أهمية استراتيجية كبيرة كنقطة للرصد والمراقبة عن بعد، فلا غرو أن يكون أول موقع فكرت القوات العسكرية الفرنسية، في الاستيلاء على أراضيه لإقامة معسكرها.
بلغت مساحة الأراضي التي استولت عليها به قرابة 25 هكتارا (24 هكتارا و284 آر)، كانت ملكيتها بيد بعض الغفساويين والتازغدريين، الذين كانوا يستثمرون جزء منها في غراسة أشجار الزيتون والتين، وقد حازتها منهم مصالح الهندسة العسكرية الفرنسية، بدعوى أنهم تخلوا عنها عن طواعية لفائدة المخزن، أي أنها اعتبرت أراضي هبة.
إلى حدود مطلع سنة 1928 كانت مساحة التل مقسمة لدى الحامية العسكرية المتمركزة به بالكيفية التالية: 11هكتار و630 آر شيد فوقها المعسكر (le camp)، و3هكتار 920 آر خصصت لبناء ما تسميه الوثائق ب«البوسط» (Le Poste)، أي مقر الإدارات العسكرية، والباقي من الأراضي وهو 8هكتارات و734آر، ترك فارغا ليكون فاصلا بين المعسكر والبوسط؛ مما يبين أن المجال العلوي للتل الذي يشاهد اليوم فارغا من أي بناء إلا من بعض الاطلال والابراج الإسمنتية التي قاومت معول الزمن والإنسان، كان معمورا بالبنايات والمرافق التي تستدعيها حياة المعسكر من المستوصف وبيوتات الإقامة (الشامبرات) والفرن وحصن الاحتماء وغيرها.
– في مارس من السنة المذكورة(1928)، قررت السلطات العسكرية العليا رفع حامية مركز غفساي، التي كانت مكونة إلى هذا التاريخ، من كتيبة من الرماة المغاربة un Bataillon de (T.M، بجعل قوامها مشكلا من كتيبة للمشاة (un bataillon) وسرية للخيالة (un Escadron) (وسرية للمدفعية (une baterrie)؛ مما كان يستدعي حيازة أراضي جديدة لبناء ست(6) اسطبلات تسع ل 216 من الخيل، ومباني لسكنى المشرفين عليه وللضباط وضباط الصف والمصالح العسكرية المختلفة. كانت مساحة هكتارين من الارض (2هكتار) كافية لبناء كل هذه المنشآت، لكن الهاجس الأمني وإصرار السلطات العسكرية على تعزيز المواقع الدفاعية للمعسكر دفعت بها إلى التفكير في تملك كل أراضي الهضبة الواقعة ما بين دوار غفساي شرقا وباب برويز غربا، على مساحة قدرت ب 54 هكتارو197آر، موزعة بعدة أماكن منها: الكميل والزراريف وارشادة وعين جامع والبلوطة وكاف المال وبلاد الدرويش وبلاد الحاج السباع وباب برويز وغيرها، وكلها أيضا أراضي زراعية في ملك الغفساويين والتازغدريين. وقد تملكتها منهم بالشراء على مرحلتين: شراء 29 هكتارا و484آر في متم عام 1928، وشراء الباقي في نونبر 1930.
-في سنة 1931، أضافت الهندسة العسكرية الفرنسية لهذه الأراضي حوالي 63 هكتارا كمجال للرماية والمناورات العسكرية، شملت الأراضي الواقعة عند منحدر الهضبة والمنبسط المجاور لواد أولاي (ينظر التصميم الملحق).
– في 20 شتنبر 1932، وبناء على اقتراح الجنرال الرئيس الأكبر للهندسة العسكرية بالغرب، صدر بالجريدة الرسمية مرسوم وزاري يأذن بشراء «سبع عشرة قطعة أرض كائنة بغفساي تبلغ مساحتها الإجمالية ثمانية هكتارات»، وذلك بقصد «تأسيس ميدان معد لنزول الطيارات(ك) بغفساي». ولئن كان نص الجريدة لا يحدد موضع هذه الأراضي، فالغالب أنها كانت بمحاذاة واد أولي حيث المجال أكثر ملاءمة للإقامة مهبط للطائرات.
هذه فقط بعض المعطيات، المستخلصة من الملف الوثائقي المتوفر، عن تطور الأراضي العسكرية بمركز غفساي خلال المدة المحددة، وهي معطيات كافية للوقوف على مدى سعة هذه الأراضي، والتأكد من خلالها على أهمية المركز كقاعدة عسكرية أساسية مهيأة لمواجهة الأخطار التي كانت القوات الفرنسية تتوجس منها، من جهة منطقة النفوذ الإسباني بشمال المغرب. ويبدو أن هذا الهاجس قد تقلص لدى الفرنسيين بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يفيد تعويضهم لقواتهم النظامية بالمركز، بإحدى فرق الگوم المحدودة العدد، انطلاقا من سنة 1947 على انحدار دوره العسكري إلى مجرد قاعدة لضبط القبائل المجاورة.
أما بالنسبة للأراضي التي تملكتها هذه القوات في المرحلة المذكورة، فالمفروض أن جزء منها قد تحولت ملكيته عن طريق الشراء لفائدة أملاك الدومين ابتداء من سنة 1952، قياسا على ما شهدت كثير المناطق المغربية المحتضنة للثكنات العسكرية، حيث شرعت الإدارة العسكرية الفرنسية في بيع كل عقارتها من البنايات والأراضي المستغنى عنها للجهة المذكورة، محتفظة فقط بمواقع الثكنات الرئيسية، والتي يمكن اعتبار وجودها اليوم من بين العوائق المطروحة امام التوسع العمراني في كثير من مراكز الشؤون الأهلية التي تطورت إلى مدن.
- أستاذ جامعي بفاس – باحث في التاريخ (ينحدر من إقليم تاونات).