إبن تاونات محمد خرقوق.. شاعر من زمن الجرح المرشوش بالملح

قراءة في ديوان '' ذاكرة الزمن المحكي '' 1 - مصطفى الفحفوحي

قراءة في ديوان ” ذاكرة الزمن المحكي ” 1 – مصطفى الفحفوحي

قبل سنوات عديدة صدر للشاعر التاوناتي الأستاذ محمد خرقوق ديوان شعر في طبعة أنيقة بعنوان ” ذاكرة الزمن المحكي” ,(منشورات صدى تاونات), فبعد طول مراس مع الكتابة الشعرية و السفر في رحاب الوجدان و النشر في العديد من الجرائد الوطنية , أعلن عن ميلاد ديوانه الأول , الذي جاء مساهمة في انعاش الحقل الثقافي المتكلس بالاقليم. متحديا بذلك وضعا سوسيو ثقافيا لا يشجع إلا على الخمول ,إذ نحييه على هذه المغامرة الجميلة التي تستحق أكثر من قراءة, ترويجا للابداع الخلاق و الملتزم لتشجيع أصحابه على الاستمرار و الحضور لمحاصرة استئساد الابتذال و القبح .

وقد احسست فعلا بنوع الاجحاف في حق هذا الديوان الباضخ معنى و مضمونا, في وقت تلقى فيه ابداعات “التمييع ” كل الدعم و المساندة . و مباشرة بعد صدور الديوان, تم الاحتفاء بالشاعر خلال حفل التوقيع , قدم خلاله بعض الأساتذة قراءات أولية في الديوان. في الحقيقة بعد قراءتي له استمتعت بلذة الشعر بناء و مضمونا .و كنت انتظر قراءات أخرى لابراز جمالية الشعر في قصائد الديوان .

قرر الشاعر محمد خرقوق اشراك قارئه في تذوق لذة قصائده بعدما ظل ثلاثة عقود يغرد في صمت صوفي و هدوء شاعري بعيدا عن الأضواء و محتفظا بأغلب شعره مسودا في درج مكتبه, علاوة على ما نشر… و الذين عرفوا محمد خرقوق أستاذا بثانوية الوحدة بتاونات يعرفون انه كان شاعرا في سلوكه و طريقة إلقائه للدروس و في رقته و في قسوته و نادرا ما قسى .و عرف أيضا بفصاحته بين زملائه و قدرته الفائقة على شد الانتباه إليه بصدق حديثه و عفويته و بساطته .انه شاعر استثنائي ولا شك ,اذ لم يتسرب إليه اليأس أو يحس بالكلل من عدم جدوى ما يكتب إذا لم يتواصل من خلاله مع قارئه المفترض ,و يحقق بذلك رغبته ككل شاعر صادق في أن يؤدي شعره دوره داخل المجتمع , ما دام أن كل شاعر صادق “يحمل بين جوانحه شهوة لاصلاح المجتمع ” .وقارئ ديوان “ذاكرة الزمن المحكي”سيحس لا محالة و كأن مبدع هذا الديوان يحمل أحزان و ألام الآمة العربية و الإسلامية على عاتقه وحيدا ,و يتجرع مرارة الخذلان العربي بمفرده ؟و الواقع أن الشاعر الصادق هو الذي يضيق ذرعا بقبح الواقع, و تعاسة التعساء وينطق بلسان الجماعة , متطلعا دوما و أبدا إلى واقع مثالي .

يقول الشاعر:

هذا زمانك يا صلاح الدين
تورمت اودلج العنترية
بذل الهزيمة
في زمن الغجر المكبل باذيال
النفاق و الشقاق
انت فيه العاشق و المعشوق معا.

نداء للانعتاق و التحرر لمحو عار الهزيمة النكراء, و الذل الذي تعيشه الامة العربية.وقد استحضر الشاعر هنا شخصية صلاح الدين الايوبي التي قلبت موازين القوى في مرحلة مشرقة من تاريخ المسلمين و العرب في فلسطين …

لقد جسد الشاعر ألام و أمال هذه الآمة في رؤية شعرية جمالية معاصرة . وقد ركب سفينة الشعر ,رغم ما يقال عن انحصار دور الشعر, سابحا ضد التيار , لامانه ولا شك , أن الشعر الشعر يسمو فوق كل الاعتبارات .و سيؤدي حتما دوره داخل المجتمع,ما دام أن الشاعر يمارس حلمه الشعري ليس إلا.وما انسحب القارئ من ساحة الشعر إلا لأن الشعر انسحب من ساحة القارئ ,ولم يعد ملتزما بقضاياه . وكما هو حال الشعراء الكبار الذين ستظل الأجيال تفتخر بهم ,توج محمد خرقوق صمته المتأجج صراخا لواقع يبعث على البكاء دما بنشر هذا الديوان الزاخر لذة و معنى .

يتوفر الديوان على القدر الكافي من الجمالية و الفنية , فالشاعر لم يضح بالمقومات الجمالية و الفنية للقصيدة من اجل القضايا الاجتماعية ,فبقدر وضوحه الفكري و موقفه من القضايا الشاغلة ,كان التزامه الفني ,حيث وفر لقصائده تلك الشحنة الدلالية من الايحاء و التخييل و الانزياحات الدلالية , إضافة إلى رؤية شعرية معاصرة .

إن الانطباع الأول الذي يمكن أن يخرج به أي قارئ لديوان “ذاكرة الزمن المحكي”,هو ذلك النزوع نحو تصوير الألم العربي بحرقة صادقة, و قد تحمل الشاعر مسؤوليته كمثقف له رسالة نبيلة عليه ان يؤديها لا أن يقفز عليها بدعاوي واهية. فلا يمكن للشاعر يقول احمد المعداوي الذي يتجرع مرارة هذا الواقع ان يقلل من أهمية الرسالة الشعرية ,و إلا لقلنا إن الشاعر ليس له قلب يحس به. وإذا كان الشاعر,أي شاعر,يروم تصوير مظاهر الخلل في الكون و الحياة , ويعمل جاهدا من اجل المساهمة في الاصلاح. فالشاعر محمد خرقوق, الذي قدر له ان يحيى في “زمن الجرح المرشوش بالملح”,فلا شك أن ألمه سيكون ابلغ , و حزنه أوضح. هذا ما يتضح لأي قارئ .يقول الشاعر في قصيدة “رؤيا في زمن الغياب”/:

في عتمة ا لاحقاد اجتثوا راس الحسين احرقوا ذا القبرين مرتين… قصوا ضفائر فاطمة بنت النبي وبالوا فوق العنفوان العربي… اختزلوا الصمت في الخطب…

ليس هناك ما هو ابلغ ألما من هذا التصوير, حيث نحس فيه الشاعر ينزف دما و ينحت الصور على حساب ذاته الجريحة. انه فعلا شاعر من” زمن الجرح المرشوش بالملح”.

و قد استطاع الشاعر فعلا ان يوفر لقوله الشعري تلك اللذة الغامضة التي تملا النصوص الجيدة , لما يمتلكه الشاعر من حس فني ناضج و تشبعه بتراث امته الذي استثمره لاعطاء متنه الشعري زخما دلاليا . كما ان وعيه العميق بواقع امته يسهل عليه اعتماد اسلوب الرفض و الاحتجاج مع الاحتفاظ دوما ببارقة امل رغم سوداوية الوضع , بدل الركون الى اسلوب البكاء و التباكي على واقع امته المتازم .

و لا شك ان المتذوق لعالم محمد خرقوق الشعري سيدرك تماما جمالية سبكه اللغوي و استثماره للتراث من اساطير و رموز و حكايات شعبية و احداث تاريخية و شخصيات …استثمار احسن صياغته في قالب شعري عذب يتمظهر من خلال صور شعرية موغلة في التخييل, و لكنها لا تتغيى الابهام في حد ذاته ,إلا من اجل اقحام القارئ في قلق و لذة إعادة البناء بدل تقديم الجاهز المستهلك.فلنتامل ذلك الزخم من الاساطير و الرموز الشعرية التي استثمرت في سياق شعري جميل و لا يروم الشاعر من خلال ذلك استعراض ثقافته بشكل مجاني. و قصائد الديوان توضح فعلا اطلاع الشاعر الواسع على ثقافة امته العربية و الاسلامية ,حيث اتخذ الشاعر من التاريخ بكل تجلياته افضية لنسج متخيله الشعري, و استلهامه ايضا لكنوز الشعر العربي قديمه و حديثه مستخدما اسلوب التناص في الكثير من القصائد.

لقد خلق الشاعر لنفسه رمزا شعريا يشكل افق انتظاره يعبر عن الانعتاق و التحرر و يحرض على ذلك أيضا . يتجلى ذلك تارة في صلاح الدين الايوبي و تارة في طارق بن زياد او باتريس لومومبا او عروة بن الورد. ان هذه الشخصيات التراثية تشترك جميعها في نبذ العبودية و الرغبة في الحرية و الانعتاق… ذلك هو امل الشاعر , بل امل الانسانية جمعاء. و الامة العربية على الخصوص التي تعاني اكثر من غيرها.

ان الشاعر محمد خرقوق الذي يعيش في زمن “الذ لقراطية”( بتعبير المنجرة) التي توجت الان انتفاظات ملتهبة , يحترق قلبه بلهيب هذا الزمن ,حيث صبغت بوحه الشعري رؤيا شعرية سوداوية حزينة تعكس انشغال الشاعر بالالم العربي العام….فلا شعرية في هذا الزمن إلا شعرية الألم. حيث” الجرح مرشوش بالملح”.

 

1 –محمد خرقوق .”ذاكرة الزمن المحكي”.ديوان شعر منشورات ” صدى تاونات”.2004.الطبعة الاولى.

 

عن الكاتب

صحفي

تاونات جريدة إلكترونية إخبارية شاملة مستقلة تهتم بالشأن المحلي بإقليم تاونات وبأخبار بنات وأبناء الأقليم في جميع المجالات داخل الوطن وخارجه.

عدد المقالات : 7245

اكتب تعليق

لابد من تسجيل الدخول لكتابة تعليق.

جميع الحقوق محفوظة لموقع تاونات.نت - استضافة مارومانيا

الصعود لأعلى