المغربي (ابن تاونات) الودغيري يسائل قولة كاتب ياسين .. هل اللغة الفرنسية فعلا “غنيمة حرب”؟
عن “هسبريس” – وائل بورشاشن:”تاونات نت”/-ما غنيمة حرب الدول المغاربية ضد الاحتلال الأجنبي؟ هل غنم المغاربيون اللغة الفرنسية أم غنمت فرنسا من يستمرون في الدفاع عن حضور لغتها بعد استقلال دول المنطقة؟ .
أفكار تناقشها سلسلة للأكاديمي المغربي (عضو منتدى كفاءات تاونات) الدكتورعبد العلي الودغيري تسائل قولة كاتب ياسين “الفرنسية غنيمة حرب”.
هذه المقولة واسعة الانتشار كثيرا ما يستشهد بها في سياق تفسير استمرار حضور الفرنسية في عدد من الدول المغاربية ودولٍ بالمشرق، بتقديم هذه اللغة بوصفها غنيمة من غنائم الحرب ضد الاحتلال.
ويناقش هذه الفكرة عبد العلي الودغيري، وهو أكاديمي متخصص في الدراسات المعجمية، درّس في جامعات داخل المغرب وخارجه، وسبق أن ترأس الجامعة الإسلامية العالمية بالنيجر، وتوّج بجوائز احتفت بإنتاجه العلمي داخل المملكة وخارجها، وهو عضو بالمجلس العلمي لإعداد “معجم الدوحة التاريخي للغة العربية”.
لكن، يرى الودغيري في هذه القولة “استعارة فضفاضة”، تستعمل كلما وجدت فئة من المجتمع نفسها “مُرغمة على الدفاع عن سلبيتها واستلابها الفكري واللغوي واصطِفافها وراء طابور من العاملين على تمزيق شمل أمّتها وتخريب هوية بلدانها.”
ويناقش الأكاديمي القولة مسجلا أن كاتب ياسين قد “استلهمها من حالة دفاع اضطراري حين وجد نفسه محشورًا في زاوية النقد الذي لاحقَه في كل مكان، من أبناء وطنه وأمّته الذين انتظروا منه الانخراط معهم في معركة التحرّر من الغزو اللغوي-الثقافي-الروحي الذي استهدف كل مكوّنات الهوية، فصار يجعل من تلك الكلمة طَوقَ نجاةٍ وفرارٍ، معبّرًا عن حالته الخاصة وحياته التي عاشَها منفيًّا وأسيرًا بفكره وروحه ووجدانه، داخلَ لغة أجنبية حاول أن يمزِّق شَرنَقتَها ويُحدث ثُقبًا في جِداراتها ليخرج منها ناجيًا، فلم يتمكَّن قطّ.”
ويواصل الودغيري: “كان كاتب ياسين يعتبر أن الفرنسية جاءت لتنقذه وأمثاله ممن كانوا في وضعيته، وتنتشله من الضياع والعدَم في فترة من تاريخ بلاده، كان من الممكن ألا يكون فيها شيئًا مذكورًا لو لم تتلقّفه تلك اللغة-المنفَى، أو اللغة-الزنزانة، وتجعل منه كاتبًا مرموقًا يُقرَن اسمُه إلى كبار أدباء الفرنكفونية الذين صنَعتهم أبواقُها والآلات الجهنّمية لإعلامها، ونَحَتت منهم أصنامَها وتماثيلَها التي تُؤثّث بها معابدها، إذ لا بد لكل إيديولوجية من أصنام وتماثيل، بغضّ النظر عن القيمة الفنية الحقيقية لإنتاجهم الذي لا يُشترط فيه أن يكون دائمًا في المستوى الجيّد.”
ويزيد: “في تلك الظروف التي سيطر فيها الاحتلال الفرنسي وهيمنت لغتُه على المجال اللغوي والثقافي هيمنةً مطلقة، وفي ظل القيود والموانع وحملة المضايقات التي فُرضت على العربية والثقافة الإسلامية وكُتّابها بشكل قاسٍ إلى أبعد الحدود. في تلك الظروف لم يكن متاحًا لياسين أن تبرز له ملامح، أو تتكوَّن له صورة، إلا إذا انتحلَ الفرنسية مِحبرةً وريشةً. فهي اللغة الوحيدة التي كان بيدها ذلك في ظل التعتيم والتهميش والحرب الضارية المبالغ فيها التي خاضها الفرنسيون ضد اللغة العربية، وهي الفرصة التي كان على كل محظوظ أن يَهتبلها إذا وجد نفسَه مطروحًا في طريقها.”
هنا، يقف الأكاديمي عند مسار الروائي كاتب ياسين ويقول: “دخل إلى المدرسة الفرنسية ولم يخرج منها طيلة حياته، رغم أنه لم يكمل دراساته. وغادر إلى فرنسا واستقرّ بها وكتَب فيها كل مؤلفاته التي اشتُهر بها، فكانت حياتُه هنالك هي المدرسةُ الثانية والكبرى. وفي المدرستين معًا تشكّل وعيُه الثقافي والسياسي واللغوي والمعرفي، ولم يكن له من زاد غير ذلك. فلما عاد إلى بلاده بعد سنوات طويلة، وجد نفسَه حبيسَ ذلك الوعي الذي نقَشته في ذهنه وعقله ثقافةُ اللغة التي ظل سجينَ أقفاصها وأسوارها إلى أن مات في مدينة فرنسية أيضا (غرونوبل)”.
هذه الثقافة بالنسبة للودغيري هي “إشهار السيف على العربية الفصحى المشتركة التي حاربتها فرنسا بكل ما تملك، وبَنَت كلّ أمجادها الاستعمارية على أساس هذه الحرب “المقدَّسة” التي جنَت من ورائها مكاسبَ سياسية واقتصادية طائلة ما تزال تعيش على منافعها وغِلالها وثِمارها إلى يومنا هذا، ولاسيما بعد اكتشافها للآلة التدميرية الناعمة المعروفة بـ”الفرنكفونية”، وهو اسم الشهرة الذي اكتسبته السياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية فيما بعد”.
ويطرح الكاتب في مساءلته المكتوبة للقولة وقائلها: “ما هي اللغة التي كانت تستحق أن تعدّها غنيمة وذُخرًا في حياتك؟ هل هي اللغة الضاربة في أعماق حضارتك وتاريخك، وقد خُنتَها وخَسِرتَها، وفرَّطتَ فيها، وتأفَّفت منها، وتعاليتَ عليها، أم اللغة اتي فرضَتها أحذيةُ الاحتلال السوداء، فاستعبَدَتك وسخَّرَتك لتكون شَماسًا على أبوابها وقِنّا من أقنانها، وصنَعَت منك عدوًّا تحارب بشوكتها شعبَك وأمتَك دفاعًا عنها، وتطعن في أمجاد آبائك وأجدادك طمعًا في نيل رضاها؟”.
ويستمر الودغيري في تفصيل فكرته: “كان ياسين يقول عن نفسه إنه استطاع أن يركب ظهر الفرنسية ويجعل منها “غنيمةَ حرب”، لكن الحقيقة أن الفرنسية (أو قل: فرنسا على الأصح) هي التي ركبت ظهره وجعلت منه مَطيّة وغنيمةَ حرب. والدليل هو هذا الكُدْس الهائل من رُكام الاستلاب والألْيَنة الذي رزَح تحته ولم يكن قادرًا على زحزحته والتخلّص منه، وهذا الخط “النضاليّ” الأعمى الذي انخرَط فيه باندفاع شديد ونفَس طويل، بعد رجوعه إلى الجزائر، من بداية السبعينيات إلى أواخر الثمانينيات، فقضى ثلثَ عُمره الأخير مرابطًا في جبهة الحرب على العربية والوجود العربي الإسلامي، وإحياء روح العنصرية وتمزيق اللُّحمة التي طالما عملت القيمُ الإسلامية على تقويتها بين العرب والأمازيغ في المنطقة المغاربية”.
تمزيق اللُّحمة، يضيف الأكاديمي، “غاية ما كانت تقوم عليه روحُ السياسة الكولونيالية والفرنكفونية وتسعى إليه. هل كان يُراد منه أكثر من التنكّر لعمقه الحضاري والثقافي الذي لم يكن واعيًا بأهميته، والمضيّ في هذا الاجترار الببَّغاوي للمقولات الاستعمارية المعادية لوحدة الأمة الإسلامية وتلاحُم مكّوناتها؟”.
إذن، يتساءل الودغيري باستنكار، “من كان يصحّ أن يُعدَّ غنيمةَ حربٍ، يا كاتب ياسين، أنتَ أم اللغة الأجنبية التي قلتَ إنك منفيُّ بداخلها؟ وهل استطعتَ تحريرَ وعيِك وعقلك وفكرك وثقافتك مِن هذا المنفى السحيق؟ قلتَ أيضًا إنك تكتب بهذه اللغة لتشوّهها وتحارب فرنسا الاستعمارية من خلالها، لكن مَن الذي استطاع في النهاية أن يشوّه الآخر حقّا، ويخترقه عقلاً وروحًا، وينخره داخليّا وخارجيّا، ويُمزّقه نفسيّا وهُوِيًّا، أنت أم الفرنسية أم فرنسا الاستعمارية؟”.
ولا ينفي الودغيري وجاهة أن تعتبر الفرنسية “غنيمة حرب”، لكنه يرى أن هذه الفكرة كانت ستكون مستساغة لو اقترنت بشرط أن تكون “اللغة الأجنبية ذاتُ القدرة على الاحتواء الثقافي والعلمي والحضاري، قد ظهرت في منطقة ليس فيها إلا عشرات اللهجات واللُّغَيّات الشفوية الضعيفة المتنازِعة والموزَّعة بين قبائل شتى، وليس لواحدة منها شُفُوفٌ ولا ظهور على الأخرى، أو رصيدٌ من الكتابة والتدوين، ولا تاريخ يستحق الذكر في العلم والفكر والتعليم، فتقوم هذه اللغة الأجنبية، بحكم الواقع اللغوي المُتشرذِم، بوظيفة التواصل الجماعي المشترَك بين السكان من ذوي اللهجات الضعيفة المختلفة، إلى جانب التعليم وتسيير الإدارة ونحو ذلك”.
ويزيد: “فهل كانت هذه الأوصاف والأحوال التي تخيّلناها لتنطبق بأي شكل من الأشكال على حال منطقتنا المغاربية، لا من حيث مستواها الحضاري والثقافي والعلمي، ولا من حيث وضعها اللغوي؟”.
ويتساءل الأكاديمي عبد العلي الودغيري، مخاطبا الروائي الراحل كاتب ياسين: “ما هي الجزائر، يا مسكين، وما هو المغرب وما هي تونس وليبيا وموريتانيا، إذا جرَّدتَ كل واحدة منها من عُمقها الإسلامي والعربي دينًا وتراثًا وحضارةً وتاريخًا وعُمرانًا وعلومًا ومعارفَ وفنونًا، ومِن كل التراث الضخم الذي كتبه علماؤُها وأدباؤها ومفكروها وفلاسفتُها وأطباؤها ومهندسوها، والفقهاء والمحدثون، والمؤرخون، والجغرافيون، وغيرهم من أعلامها ورموزها وشوامخها، وتخلّت عن كلّ مقوّمات شخصيتها في ماضيها وحاضرها ومستقبلها؟”.
ويكتب الودغيري أن “الإسلام بما هو دين وحضارة وعُمران وثقافة وقيَم إنسانية عليا، أعطى للجزائر وغيرها من الدول والشعوب التي كان لها شرفُ احتضانه، ولم يأخذ منها. أعطاها كلَّ شيءٍ ولم يأخذ منها شيئًا. وحَّدها ولمَّ شتاتَها الداخلي والخارجي مع شقيقاتها المسلمات، وسلَّم حكمَها وقيادتَها لأبنائها ولم يضعهما في يد الغرباء عنها. قوّاها ولم يُضعفها. أحياها ولم يُمِتها. والذي صنع كل هذا، في العهد الإسلامي، هو الإنسان المغاربي الذي امتزجت فيه الدماء العربية بالدماء الأمازيغية والإفريقية، والروح الأمازيغية بالروح العربية والإفريقية”.
ويضيف: “هذا العطاء صنعه وساهم فيه الجميع، ولم يكن أحد قبل عصر الاحتلال الفرنسي ينسب شيئًا منه للعرب وحدهم أو للأمازيغ وحدهم، وإنما يُنسَب للبلاد التي توحِّدهم، فيقال مغربي أو جزائري أو تونسي أو ليبي، ونحو ذلك. وإذا نُسِب المكتوب منه إلى العربية فلأنه مكتوب في جملته بالعربية، أي اللغة المشتركة الجامعة التي ظلت لغةً رسمية لدول المغرب منذ الفتح إلى اليوم. وإن كان قليل منه قد كتب بلهجات أمازيغية لكن بحروف عربية. ونحن نتحدث عن العصور الإسلامية، أما ما كان قبلها فما بقي منه معروف ومنسوب لأصحابه، وما اندثَرَ فيعرفه المؤرخون والباحثون ويردّونه لأصحابه أيضًا”.